محافظة العلا.. أسرار التاريخ وكنز الحضارات الإنسانية
"العلا" هي إحدى محافظات منطقة المدينة المنورة، تتمتع بموقع جغرافي يتميز بتشكيلاته الجبلية المتنوعة وكثبانه الرملية الذهبية.
جذبت منطقة الجزيرة العربية الكثير من الرحالة والمستكشفين من غير العرب على مر السنين، وتحملوا عناء السفر إليها منذ أكثر من 100 عام للتعرف عليها، ودراسة تراث حضاراتها المتعاقبة على أرضها، ومنها حضارة "محافظة العلا" المعروفة بمعالم تاريخية موغلة في القدم مثل: مدائن صالح التي تعود إلى 300 سنة قبل الميلاد، ووصفها المؤرخون بأنها مرآة حضارات العالم القديم التي ظلت أسرارها مستعصية على الكثير من الباحثين حتى وقتنا الحاضر.
و”العلا” هي إحدى محافظات منطقة المدينة المنورة التي تبعد عنها باتجاه الشمال 300 كم، وتقع في الجزء الشمالي الغربي من المملكة، وتشغل مساحة طولية تصل إلى 25 كم، وعرضها ما بين 3 إلى 5 كم، وتتمتع بموقع جغرافي تميز عن غيره من المواقع بتشكيلاته الجبلية المتنوعة وكثبانه الرملية الذهبية.
ويستقبل الزائر للعلا نسمة هواء نقية تنشر العليل في المكان لتبهج النفس التواقة للراحة، خاصة في ليلها الهادئ الذي كلما زادت عتمته أضحت السماء قطعة من النجوم المتلألئة، بينما تجتمع في الوادي نخيل باسقات ارتوت بماء العلا العذب المتدفق من عيونها الجوفية.
وفي ظل رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده، جرى تأسيس هيئة مستقلة لمحافظة العلا، بمسمى "الهيئة الملكية لمحافظة العلا"، وتعكس الهيئة أهمية تطوير محافظة العلا على نحو يتناسب مع قيمتها التاريخية، وما تشتمل عليه من مواقع أثرية، بما يحقق المصلحة الاقتصادية والثقافية المتوخاة، والأهداف التي قامت عليها رؤية المملكة 2030.
ورعى الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة العلا، الأحد، حفل تدشين "رؤية العلا" للإعلان عن خطتها الرامية إلى تطوير العلا بطريقة مسؤولة لتحويلها إلى وجهة عالمية للتراث، مع الحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي في المنطقة، بالتعاون مع المجتمع المحلي وفريق من الخبراء العالميين.
ولا عجب أن تجد محافظة العلا بمقوماتها التاريخية العريقة ذلك الاهتمام من القيادة الرشيدة، فقد أذهلت مقوماتها 22 دولة في اجتماع لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو عام 2008، ليوافقوا على اعتماد أحد مواقعها القديمة، وهو موقع الحِجر "مدائن صالح" ضمن قائمة التراث العالمي، وعدت مدائن صالح في حينها أول موقع سعودي يسجل عالمياً.
وأقرت رؤية المملكة 2030 تسجيل المزيد من المواقع التراثية في المملكة في قائمة التراث العالمي، وسيتمكن الجميع من الوصول إليها بوصفها شاهداً على إرث المملكة العريق، والموقع البارز للبلاد على خريطة الحضارة الإنسانية.
يأتي ذلك فيما تستلهم الذاكرة حديث ولي العهد السعودي الذي قال في إحدى كلماته: "المملكة لم تستثمر سوى 10% من إمكانياتها، وكل خطط المملكة تتمحور حول: القوى والإمكانيات الوطنية، وليس لتكرار أي نموذج آخر في العالم".
وعرفت "العلا" قبل الإسلام باسم "دادان"، وورد ذلك في كتب الآشوريين، والكتب العربية القديمة، حسبما ذكر أحد أبناء العلا المهتمين بالتاريخ عبدالحكيم آل عبدالدائم، حيث قال: "عُرفت كذلك بمسمى وادي القرى، لكن اسمها ارتبط عند العامة بإرث حضارة الأنباط الذين بنوا مدائن صالح على بعد 22 كم عن العلا، وشهدت أرضها قصة نبي الله صالح عليه السلام مع قوم ثمود، وبقيت معالم قصتهم مع ناقة صالح خالدة بين صخورها حتى الآن".
وتشير العديد من الدراسات التاريخية إلى أن “العلا” زارها رحالة مسلمون خلال رحلتهم إلى الحج، منهم: ابن بطوطة سنة 726هـ، وعبدالقادر الجزيري الأنصاري سنة 961هـ، كما زارها مجموعة من المستكشفين الغربيين خلال زيارتهم للجزيرة العربية في أعوام 1880م، 1903م، 1907م، 1909م، 1910م، و1964م، وأعد الرحالة الإنجليزي ج كوك دراسة عام 1903م عن العلا بعنوان "الكتابات السامية الشمالية"، وهي دلالة واضحة على اهتمام الغرب منذ القدم بدراسة التراث القديم الممتد من الشام إلى الجزيرة العربية، واهتمت دارة الملك عبدالعزيز بترجمة معظمها إلى اللغة العربية.
واحتل موقع “الحِجر” مكاناً استراتيجياً على طريق التجارة القديم "طريق البخور"، الذي ربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها وبالمراكز الحضارية في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، وسكنه قوم ثمود، ثم “الأنباط” من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي، وفقاً لما ذكرت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في تقرير لها.
ولم تكمن أهمية محافظة العلا في وجود مدائن صالح وحسب، بل في القرية التراثية التي يوجد فيها مسجد بناه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بالحجارة، وخط محرابه بعظم، فأطلق عليه مسجد “العظام”، ويحيط بالقرية من ثلاثة اتجاهات عدد من الحقول، ومزارع النخيل، والحمضيات، والفواكه، كما تميزت أرض العلا بتربة خصبة صالحة للزراعة، ووفرة كبيرة من المياه العذبة التي تنبع من 35 عيناً جوفية.
وخلال هذا العهد الميمون، تُعيد المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده، الاهتمام بهذه الثروات التاريخية التي تعبر عن مكانة تراث المملكة العربية السعودية وعراقته، معززة ذلك التوجه برؤية 2030 التي تسعى إلى إنشاء أكبر متحف إسلامي في المملكة وفق أرقى المعايير العالمية، ويعتمد أحدث الوسائل في الجمع والحفظ والعرض والتوثيق، ليكون محطة رئيسة للجميع، للوقوف على التاريخ الإسلامي على أرض الجزيرة العربية.
وكان ولي العهد قد وقّع خلال زيارته إلى فرنسا العام المنصرم مع الحكومة الفرنسية اتفاقية تشارك من خلالها فرنسا في تعزيز مصلحة رؤية المملكة 2030 لتطوير القطاع السياحي والتراثي المستدام في العلا، بمشاركة شركاء دوليين استكمالاً لعملية حماية إرثها وطبيعة تراثها.
وتنطلق هذه الخطوة من الاهتمام الكبير الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في خدمة التراث القديم، ودعم الدراسات التاريخية منذ توليه إمارة منطقة الرياض قبل أكثر من 45 عاماً؛ حيث سخّر كل إمكانيات دارة الملك عبدالعزيز للتاريخ، ووجّه بإتاحة معارفها المختلقة إلى الباحثين في العالم دون استثناء، لينهلوا منها العلوم الموثقة عن تاريخ الجزيرة العربية.
ونتذكر جميعاً كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عن التاريخ؛ حيث قال عن تاريخ الجزيرة العربية: "إنه من الجوانب المهمة في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ حيث حظيت هذه المنطقة بالكثير من الأحداث وأسهمت في بناء الكثير من الحضارات منطلقها البناء والاستقرار، كما أسهمت في ضخ مجتمعات بشرية إلى مناطق محيطة بها وبعيدة عنها من خلال الهجرات التي انطلقت منها".
والرحلات الأثرية في مقدمة الوسائل التي تخدم الصناعة الأثرية، وتسهم في نشر ثقافتها وتوثيق معالمها، لذا عملت دارة الملك عبدالعزيز على طباعة كتيب مترجم إلى اللغة العربية عن "رحلة إلى مدائن صالح"، قام بها فريق علمي عام 1964، مكون من 28 شخصاً يمثلون: المملكة العربية السعودية، وبريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وألمانيا، وإيطاليا، وأمريكا، وسويسرا، سجلوا خلالها آثار مدائن صالح، وتاريخها، والمظاهر المعمارية، والنقوش التي رسمت على صخورها، ومعالم طريق الرحلة براً من رابغ مروراً بالعلا حتى المدائن ثم العودة بطائرة “الداكوتا” التي هبطت على أرض العلا الترابية في ذلك الوقت.
وزار الرحالة أنطوان جوسن، ورفائيل سافينياك، مدائن صالح عام 1907، واستكشفا النقوش: "النبطية"، و"المعينية" و"اللحيانية" و"الثمودية" التي وجدت في البيوت المنحوتة على جبالها، وعملا على تحليلها وترجمتها إلى معانٍ معروفة، فضلاً عن تقديم وصف شامل لآثار موطن “الأنباط” المعروف بـ”الحِجر” عند المؤرخين والجغرافيين العرب.
ولم تقتصر رحلة جوسن وسافينياك على البحث عن الآثار البائدة بل درساها بعمق، حسبما قال المشرف العام على مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها في جامعة الملك سعود، الدكتور عبدالله بن ناصر السبيعي؛ حيث بيّن أنهما زارا الجزيرة العربية 3 مرات أولها عام 1907، ووصلا إلى مدائن صالح، ولم يتمكنا من زيارة "العلا"، لكنهما عادا إليها في عامي 1909 و1910.
وألّف المؤرخان جوسن وسافينياك بعد رحلاتهما الـ3 إلى الجزيرة العربية كتاباً بعنوان "رحلة استكشافية أثرية إلى الجزيرة العربية"، يتكون من 5 مجلدات، عد مرجعاً للكثير من الباحثين في العالم، رغم تطور قراءة اللغات القديمة والنبطية، خاصة عند المتخصصين في مجالات: النقوش، والآثار، والجغرافيا، والاجتماع.
وتميز الرحالة الفرنسيون عن غيرهم من الجنسيات الأخرى بشغفهم للتراث القديم؛ حيث قام المستكشف الفرنسي شارل هوبر برحلتين إلى الجزيرة العربية أولاهما عام 1880، والثانية عام 1884، زار خلالهما: الجوف، وحائل، وجبة، وبريدة، وتيماء، وخيبر.
ومن جانب آخر، أسهمت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية في خدمة هذا الكيان التراثي الذي يحظى بمتابعة الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز، أمير منطقة المدينة المنورة؛ حيث أعدت مشروعاً تجريبياً لتقنية أجهزة المسح الليزري الأرضية التي تقوم بتحويل كامل تفاصيل المعلم "قصر الفريد كمثال" إلى نقاط سحابية منسوبة إلى إحداثيات الموقع، بحيث يمكن تحويله إلى نماذج ثلاثية الأبعاد، ليصبح التعامل معها سهلاً رقمياً، وربطها بقواعد المعلومات الجغرافية.
وتُسهم هذه التقنية في توثيق معالم مدائن صالح بكامل تفاصيلها وتسهل على الباحثين دراسة تفاصيل المعلم الدقيقة مع مراقبة التغيرات التي قد تطرأ عليه خلال الفترات الزمنية المختلفة.
ويحرص زوار العلا على زيارة مواقع أثرية فيها لها قيمتها التاريخية في الإسلام، وفيها تجتمع لحظات التأمل والتدبر عند مشاهدة: مدائن صالح، والخريبة الأثري، وجبل عكمه الأثري، ومداخيل البرية، والمعتدل الصحراوية، بالإضافة إلى نقش زهير التاريخي، والبلدة التراثية، ومطل حرة عويرض، وجبل الفيل.
ومن المتوقع حسبما ذكرت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في تقرير لها أن يصل حجم الاستثمارات في مشروع تطوير العلا بحلول عام 2020 إلى 2.6 مليار ريال، وأن يتم استقبال 400 ألف سائح سنوياً، وتوفير أكثر من 4200 وظيفة لأبناء وفتيات الوطن، مع بناء 1878 غرفة فندقية في الموقع، وهذا الإرث الكبير ما هو إلا جملة من الثروات البيئة والطبيعية والتاريخية الموجودة في المملكة، التي تفسر معالمها قصص وأحداث الحضارات القديمة على أرض الجزيرة العربية.