يبدو أن الولايات المتحدة نقلت حربها مع الصين من مجال التجارة إلى الحرب على الشركات الصينية
يبدو أن الولايات المتحدة نقلت حربها مع الصين، من مجال التجارة والتركيز على تحقيق الصين لفائض كبير في تجارتها مع الولايات المتحدة، إلى الحرب على الشركات الصينية التي اكتسبت مكانة دولية خاصة في الصناعات التي تستند إلى التكنولوجيا المتقدمة، ويعود السبب في ذلك إلى الخوف على الأمن القومي الأمريكي من هذه الشركات التي قد تمارس أعمال تجسس. هكذا كان الموقف من شركة هواوي، ثاني أكبر شركة في العالم لصناعة الهواتف الذكية، والشركة الأكبر في مجال صناعة معدات الاتصالات خاصة لتكنولوجيا الإنترنت G5، ولم تقتصر إجراءات الولايات المتحدة على منع شركة هواوي من العمل داخل الولايات المتحدة أو من الحصول على معدات متطورة أو برامج من الشركات الأمريكية، بل دعت كافة دول العالم إلى عدم التعامل مع الشركة الصينية وإلا فلن تتعامل معها الولايات المتحدة في هذا المجال، لخشيتها على أمنها وأمنهم القومي.
ويبدو أن الحرب الشرسة التي تخوضها واشنطن ضد "هواوي" لن تقتصر فقط على منتجات الشركة من الهواتف الذكية أو التقنيات التي تطورها، وفي مقدمتها تقنية إنترنت الجيل الخامس، لكن الأمر يتجه إلى منتجات صينية متطورة أخرى، ومنها شركة هيك فيجن لصناعة أنظمة المراقبة، ومنها كذلك الطائرات بدون طيار أو ما يعرف بالدرونز.
ربما يكون إذا ما تخشاه الولايات المتحدة هو أن اضطراد التطور التكنولوجي الصيني سيؤدي لاحقا إلى وجود تطبيقات عسكرية لكل ما يتم تطويره في المجال المدني، وهو ما قد يشكل بالفعل خطرا على الأمن القومي الأمريكي، وبهذا المفهوم الواسع يمكن تفهم مسارعة الولايات المتحدة لمحاولة وأد التطور التكنولوجي الصيني
فقد حذرت الولايات المتحدة من أن الطائرات الصينية بدون طيار يمكن أن تستخدم للتجسس، وتعطي بكين إمكانية "الوصول بلا عوائق" إلى معلومات تتعلق بمستخدميها، وذكرت شبكة سي.إن.إن أن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أصدرت الأسبوع الحالي تحذيرا أشارت فيه إلى "الخطر المحتمل على صعيد المعلومات" الذي تشكله الطائرات المسيرة المصنوعة في الصين، ولم تسم المذكرة أي مصنع، لكن 70% من الطائرات المدنية المسيرة في العالم مصنوعة لدى شركة دي.جي.آي الصينية.
وأضافت أن الإدارة الأمريكية "قلقة جدا حيال المنتجات التكنولوجية التي تدخل بيانات أمريكية إلى أراضي دولة استبدادية، وتسمح لأجهزة استخباراتها بالوصول بحرية إلى هذه البيانات أو إساءة استخدامها بطريقة أخرى".
وفي 2017، حظر الجيش الأمريكي استخدام الطائرات بدون طيار المصنعة من قبل "دي.جي.آي" بذريعة مشاركتها بيانات البنية التحتية الحيوية.
وأشار تقرير داخلي -صادر في عام 2017 عن قسم الاستخبارات بوكالة إنفاذ قوانين الهجرة في لوس أنجلوس- إلى أن الشركة كانت تستهدف بشكل انتقائي الكيانات الحكومية والخاصة داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك قطاعات البنية التحتية الحيوية، من أجل توسيع قدرتها على جمع واستغلال البيانات الأمريكية الحساسة، وردت الشركة في العام نفسه بإضافة وضع خصوصية إلى طائراتها بدون طيار يُوقف استخدام الإنترنت أثناء طيران الطائرة بدون طيار.
ويمكن في الواقع فهم الخوف على الأمن القومي الأمريكي ليس فقط بهذا المعنى المباشر؛ أي إمكانية التجسس والحصول على معلومات وبيانات تفيد الصين، بل بمعنى آخر هو قدرة الصين التكنولوجية المتنامية التي تتيح لها الانتقال من التطور التكنولوجي في قطاعات مدنية بالأساس إلى اكتشاف تطبيقات عسكرية لهذه التكنولوجيا الآن وفي المستقبل.
ويعد أفضل من عبَّر عن هذا المفهوم "وليام جيمس بيري" وزير الدفاع الأمريكي في الفترة بين فبراير 1994 ويناير 1997، أثناء رئاسة بيل كلينتون؛ حيث شغل قبل ذلك عدة مناصب في وزارة الدفاع، ويعد بيرى عالم رياضيات ومهندس ورجل أعمال، ومن بين إنجازاته المهمة دوره الفعال في تطوير تكنولوجيا الطائرات الشبح، وعمل بيري بعد تركه الوزارة مديرا لمشروع الدفاع الوقائي بجامعة ستانفورد، ويعد بيري أيضا من كبار خبراء السياسة الخارجية والأمن القومي والحد من التسلح.
أي يمكن القول باختصار إنه كان وزير الدفاع الوحيد الذي كان الأكثر ارتباطا بقضايا التطور التكنولوجي والبحث والتطوير، وله العديد من الكتابات في هذا المجال، وفي واحدة من أوراقه البحثية المهمة كتب بيرى أنه يلاحظ وجود تحولين مهمين في قضايا البحث والتطوير التكنولوجي أصبحا يهيمنان على المجال، مرونة خطوط الإنتاج حيث أصبح من الممكن إنتاج كميات محدودة من المنتج بتكلفة اقتصادية، ثم أيضا المرونة في تحويل خط الإنتاج من إنتاج منتج معين إلى إنتاج منتج آخر خلال فترة قصيرة. التحول الثاني الأكثر أهمية هو ما لاحظه بيري بشأن الاستخدام المزدوج للتكنولوجيا العسكرية/المدنية، فبينما كان التطور يسير لفترة طويلة في اتجاه تطوير تكنولوجيا عسكرية معينة ثم يتم اكتشاف تطبيقات مدنية متعددة لها، والقائمة هنا طويلة، فصناعة الصواريخ التي بدأت من أجل الجهد العسكري سرعان ما تحولت إلى استخدامها في اكتشاف الفضاء والإنترنت، الذي بدأ كشبكة لربط أجهزة الكومبيوتر للاستخدام العسكري في بداية السبعينيات توسع ليشمل أنشطة ما كانت تدور بخلد من صمموا شبكته الأولى، وهكذا الحال في الأقمار الصناعية التي بدأت لأغراض التجسس لتنتشر بل وتثور قطاع الاتصالات والمعلومات. وهناك المئات من الابتكارات التكنولوجية العسكرية التي وجدت استخداما مدنيا لها في فترة لاحقة، أما ما اكتشفه بيري فهو السرعة المتزايدة التي أصبح يتم بها اكتشاف استخدامات عسكرية لتكنولوجيا يتم تطويرها في المجال المدني أساسا، وربما كان المثال الأكثر وضوحا على ذلك هو التطور الذي شهدته صناعة الإلكترونيات والليرز وغيرها، وذهب بيري عند كتابة هذه الورقة البحثية في تسعينيات القرن الماضي إلى حد القول إنه مع التطور الكبير في تكنولوجيا الإلكترونيات في بلد مثل اليابان تصبح هذه البلاد قادرة على صناعة أحدث وأكثر المقاتلات الجوية في العالم تطورا خلال زمن وجيز، إذا أرادت ذلك بفضل التطور التكنولوجي الذي حققته في قطاعات مدنية من حيث الأساس.
ربما يكون إذا ما تخشاه الولايات المتحدة هو أن اضطراد التطور التكنولوجي الصيني سيؤدي لاحقا إلى وجود تطبيقات عسكرية لكل ما يتم تطويره في المجال المدني، وهو ما قد يشكل بالفعل خطرا على الأمن القومي الأمريكي، وبهذا المفهوم الواسع يمكن تفهم مسارعة الولايات المتحدة لمحاولة وأد التطور التكنولوجي الصيني، أو محاصرته على أقل تقدير؛ حيث تحد من القدرات الصينية، سواء في مجال الابتكار أو التوسع في تصنيع والتجارة في صناعات المنتجات التي تستند إلى التكنولوجية المتقدمة، وهو الهدف المعلن في استراتيجية الصين 2023، ثم في محاولة وقاية نفسها من تطبيقات عسكرية ترفع من قدرة الصين في إطار التنافس أو الصراع الشامل مع الولايات المتحدة على موقع القيادة في النظام الدولي في زمن لاحق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة