وعي الإنسان بذاته، يجعل مهمات علماء الدين حاليا أكثر صعوبة؛ لأنهم بحاجة لأن يعيدوا قراءة المنظومة الفقهية بآليات مختلفة.
عام 2004 أقامت مكتبة الملك عبدالعزيز، ندوة بعنوان «الإسلام وحوار الحضارات»، بمشاركة نحو 120 شخصية ثقافية ودينية من دول عدة، وتوجهات سياسية وفكرية متنوعة.
الندوة التي شهدت سجالات حيوية، وتداولت أفكارا تعتبر جريئة حينها، كانت لي فرصة حضورها؛ حيث شاركت في عدد من النقاشات، وكانت إحدى مداخلاتي تتركز على الموقف الفقهي من «الإنسان غير المسلم»، وإشكالية الانفتاح عليه، وازدواجية الخطاب حوله لدى التيارات الإسلامية.
في المداخلة، تناولت كيف ينظر كثير من الفقهاء إلى «غير المسلمين» باعتبارهم ذواتا «نجسة»؛ أي «غير طاهرة»، سواء مَن كان يرى هذه النجاسة حسية مادية، أو أنها نفسية داخلية. واعتبرت أن هذا الموقف الفقهي يعد في حد ذاته مشكلة حقيقية في علاقتنا مع الآخر؛ حيث ننظر له بـ»دونية»، فنحن «الأطهار»، فيما هم «الأرجاس»!.
وعي الإنسان بذاته، يجعل مهمات علماء الدين حاليا أكثر صعوبة؛ لأنهم بحاجة لأن يعيدوا قراءة المنظومة الفقهية بآليات مختلفة، وعقلية جديدة؛ لتأسيس مدونة أحكام معاصرة تقدم حلولا للمشكلات الفقهية والقانونية التي يعيشها المسلمون اليوم، وهي حلول لا توفرها المصنفات القديمة على أهميتها
استثارت مداخلتي الشيخ عبدالله بن بيه، الذي علق عليها، نافيا القول بـ"نجاسة الإنسان" المادية، ومستفيضا في هذا الصدد، ومدافعا عن رأيه بقوة؛ حيث كان يعرض وجهة نظره الخاصة، التي كانت متقدمة على كثير من أقرانه من العلماء التقليديين.
هذه القصة يمكن قراءتها في سياق الفهم المعاصر للنصوص، وهو الفهم الذي يترتب عليه تبدل النظرة تجاهها، وتغير طريقة التعاطي معها، وتحولها من نصوص ذات ديمومة لا نهائية، أو أحكام ودلالات قطعية ثابتة لا تتبدل، إلى نصوص استرشادية، «تاريخانية»، مرتبطة بظروف وعصر صدورها.
النظر إلى النص كأحد مصادر العلم، وأحد منابع الفتوى، وليس الأساس والركن الأوحد لها، يقود إلى استنباطات مختلفة تماما عما كان في القرون السابقة، التي تعامل كثير من جمهور علمائها مع النصوص بكثير من القداسة والجمود، دون الجرأة على مساءلتها إلا لدى القليل من الفقهاء أو المتكلمين.
الإنسان في الوقت الراهن بات يُنظر له باحترام شديد، وله كينونته التي تصونها شرعة حقوق الإنسان، كما أن الدولة الحديثة نظمت القوانين لترتيب الفضاء العام، بهدف الحفاظ على الإنسان وحريته وفردانيته أولا، ومنع حدوث صدام بين البشر من جهة أخرى.
هذه المركزية التي تشكلت في الأذهان وفي الواقعين الاجتماعي والفلسفي، حتى السياسي للإنسان، تجعل التفكير مختلفا لدى الفقهاء المعاصرين المجددين، وبالتالي يرون أن أحكاما مثل «الرق»، التي كانت مقبولة في العصور السابقة، لم تعد ممكنة أو مقبولة الآن، كما ناقش ذلك د. توفيق السيف في مقالته «الثابت والمتغير.. مرة أخرى»، في الزميلة «الشرق الأوسط».
وعي الإنسان بذاته، يجعل مهمات علماء الدين حاليا أكثر صعوبة؛ لأنهم بحاجة لأن يعيدوا قراءة المنظومة الفقهية بآليات مختلفة، وعقلية جديدة؛ لتأسيس مدونة أحكام معاصرة تقدم حلولا للمشكلات الفقهية والقانونية التي يعيشها المسلمون اليوم، وهي حلول لا توفرها المصنفات القديمة على أهميتها.
نقلا عن "الرياض"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة