إن العالم الحديث فيه من القيم العامة مثل: التعددية والتعايش والحرية
في عام 1934 أنهى الفيلسوف الهندي محمد إقبال كتابه "تجديد الفكر الديني"، وبعدها بأربع سنوات انتقل إلى رحمة الله، ومنذ التاريخ إلى اليوم لم يزل المفكرون والمثقفون في العالم الإسلامي ينادون بالتجديد دون محاولة حقيقية لتنفيذه، وتحقيقه على أرض الواقع، فقد تحولت ضرورة التجديد إلى دعوة مثالية تقف عند حدود الشعار، ولا تنزل إلى النماذج والأمثلة والتطبيقات.
والأمس وقبله اجتمع 600 عالم وباحث وفقيه وواعظ من جميع أنحاء العالم، من دول تعداد المسلمين فيها بمئات الملايين مثل الهند وإندونيسيا؛ إلى دول تعداد المسلمين فيها بالمئات مثل كوستاريكا وجزر سليمان، جاؤوا جميعاً إلى أبوظبي عاصمة الإمارات لحضور "المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة: الفرص والتحديات"، الذي انعقد في جزيرة السعديات يومي 8 و9 مايو 2018.
وقد تركز النقاش على أوضاع المجتمعات المسلمة التي توجد في دول ليست أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي؛ في أوروبا والأمريكيتين وأستراليا ودول شرق آسيا وجنوبها، تلك المجتمعات التي يعتبر المسلمون فيها إما مهاجرين منذ أقل من قرن من الزمان، أو أن أعدادهم صغيرة، ويواجهون صعوبات في التوفيق بين عقيدتهم من ناحية، وثقافة مجتمعاتهم ودولهم من ناحية أخرى.
الفقه التقليدي الذي وجد طوال القرون الأخيرة في المجتمعات العريقة في الإسلام في العالم العربي وغرب وجنوب آسيا لا يصلح نقله للمجتمعات المسلمة الجديدة في أوروبا والأمريكيتين وأستراليا، لأن فيه من الأحكام ما لا يتعلق بهذه المجتمعات المسلمة حديثة النشأة.
وعبر عشرات الأوراق البحثية والمحاضرات والندوات التي عُقدت بصورة متوازية يمكن أن نخرج بخلاصة تؤكد ولأول مرة أن عملية تجديد في الفكر الديني حقيقية قد بدأت بالفعل، ولكنها بداية مختلفة، بداية جماعية، لا تُنسب إلى شخص بعينه أو مفكر بذاته، فقد تلاقت الأوراق والأبحاث على مجموعة من الأفكار تمثل منطلقاً لتحقيق تجديد حقيقي في الفكر الديني بكل مستوياته الفقهية والعقدية والاجتماعية والثقافية.... إلخ، يمكن حصر أهمها في الآتي:
الإجماع على تجاوز مفهوم الأغلبية والأقلية، فالكل بشر، والكل سواء، فلا أوزان نسبية عددية في مجتمع تعددي يؤمن بقيمة الإنسان التي رسخها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في وثيقة المدينة، وأن هذا الفهم ينطبق على غير المسلمين في المجتمعات المسلمة، وعلى المسلمين في المجتمعات غير المسلمة.
إن مفهوم المواطنة الذي يعبّر عن علاقة قانونية بين الإنسان والدولة التي يعيش في كنفها، ويخلق أمة تقوم على أساس الحقوق والواجبات هو المفهوم الذي ينبغي أن يسود، وهو الفهم الذي يجب أن يشكل الثقافة، فالعيش المشترك، وما يرتبه من عدالة في التساوي والتوازن بين الحقوق والواجبات يجب أن يكون هو القاعدة التي تحكم علاقة الأفراد في جميع مجتمعات الأرض.
إن التعامل مع المجتمعات المسلمة في دول الغرب والشرق التي تقع خارج العالم الإسلامي التاريخي، لا يجب أن يتم على أساس أنهم مهاجرون، وسيعودون إلى أوطانهم السابقة، بل يجب أن ينظروا لأنفسهم، وينظر إليهم الآخرون على أساس أنهم مواطنون في تلك المجتمعات، هم جزء لا يتجزأ من نسيجها، ولذلك لا يجب أن يتم تصنيع فقه خاص بهم يسمى فقه الأقليات، ولا يجب أن يتعاملوا بفقه الضرورات، أو فقه الأولويات، بل يجب أن ينتجوا فقهاً طبيعياً يناسب ظروفهم، وأحوالهم وبيئاتهم كما نشأت المدارس الفقهية في صدر الإسلام لتناسب البيئات الجديدة التي أسلمت، أو انتقل إليها المسلمون.
إن إنتاج فقه جديد لهذه المجتمعات عملية في غاية التركيب والأهمية، لا يصلح لها من نشأ وتعلم خارج تلك المجتمعات؛ بل يجب أن يقوم بها أبناء تلك المجتمعات، ولذلك لابد أن تنشأ لهم ومنهم مؤسسات تعليمية وتدريبية؛ تستلهم مقاصد الشريعة، وقيم الدين وغاياته ومُثُله العُليا، ويتم تنزيل كل ذلك على واقع تلك المجتمعات بما يحقق مراد رب العباد من العباد.
إن الفقه التقليدي الذي وُجد طوال القرون الأخيرة في المجتمعات العريقة في الإسلام في العالم العربي وغرب وجنوب آسيا لا يصلح نقله للمجتمعات المسلمة الجديدة في أوروبا والأمريكيتين وأستراليا، لأن فيه من الأحكام ما لا يتعلق بهذه المجتمعات المسلمة حديثة النشأة، فعلى سبيل المثال موضوع الأحكام السلطانية التي يخاطب الشرع بها الحكام، وليس الأفراد العاديين؛ لا علاقة له بهذه المجتمعات المسلمة؛ التي تعيش في دول لا علاقة لقوانينها بالشريعة وأحكامها، وعلى هذه المجتمعات المسلمة أن تلتزم بالقوانين التي تعيش في ظلها.
على المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي ألا تسعى لفرض الوصاية على المجتمعات المسلمة الحديثة، ولا تصر على تحميلها مسؤوليات لا طاقة لها بها، وأن تعمل على تمكينها من أن تنمو نمواً ذاتياً يجعلها قادرة على إيجاد نسخة من التدين تناسب ظروفها وزمانها ومكانها؛ ضمن قيم الإسلام ومقاصده وقواعده العامة.
إن المجتمعات المسلمة الحديثة يجب أن تتحرر من الحمولة الثقافية التي جاء بها المهاجرون الأوائل، فتلك الحمولة تعيق اندماجها في مجتمعاتها الجديدة، وتخلق عزلة بين أبنائها وبين بقية المجتمع مما يحقق عظيم الضرر بالمسلمين والإسلام.
إن العالم الحديث فيه من القيم العامة مثل: التعددية والتعايش والحرية ما يمكِّن المسلمين في تلك المجتمعات من أن يعيشوا دينهم، ويحققوا قيمه دون أن يتصادموا مع جيرانهم، وبني أوطانهم من أصحاب الديانات والملل الأخرى.
إن عملية التجديد هذه إذا تمت في كل ما يتعلق بالمجتمعات المسلمة خارج العالم الإسلامي التقليدي ستقود إلى عملية تجديد أعمق في العالم الإسلامي ذاته، وإن الجهود التي ستُبذل لإيجاد فقه جديد يناسب المجتمعات المسلمة الحديثة سوف تدفع وبقوة الى إعادة نظر شاملة في الفقه الموروث في المجتمعات المسلمة التقليدية، وستخلق حيوية فكرية وفقهية تشجع على الاجتهاد والتجديد.
وهنا قد يدرك المسلمون المعاصرون مغزى الكتاب الذي وضعه الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى 911 هجرية/1505م، والذي يحمل عنواناً مبدعاً بديعاً يجعل المعاصرين يذوبون خجلاً، فعنوانه يقول "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"....
نعم.. لخمسة قرون ونحن ملتصقون بالأرض جاهلون أن الاجتهاد في كل عصر فرض...وقد آن الأوان أن ننهض من الأرض وندرك أن الاجتهاد في كل عصر وفي كل مصر (بمعنى بلد) فرض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة