من أخطر انعكاسات الحروب والصراعات الأهلية التي تمر بها منطقتنا راهناً، تغيير جذري في تركيبة النسيج البشري للمجتمعات العربية بتصاعد موجات «التصفية» الدينية والطائفية لخلق كيانات «متجانسة» بالقوة والعنف.
من أخطر انعكاسات الحروب والصراعات الأهلية التي تمر بها منطقتنا راهناً، تغيير جذري في تركيبة النسيج البشري للمجتمعات العربية بتصاعد موجات «التصفية» الدينية والطائفية لخلق كيانات «متجانسة» بالقوة والعنف.
إلى عهد قريب كانت مجتمعاتنا متنوعة كغيرها من بلدان العالم، كانت الأحياء اليهودية مكوناً من مكونات بعض هذه المجتمعات في مشرق العالم العربي ومغربه، وإن انحسر هذا الوجود اليهودي بعيد الحروب العربية الإسرائيلية. وإلى حد الموجة الجنونية التي عرفتها بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة، كانت أغلب مجتمعاتنا متنوعة طائفياً دون مشاكل في التعايش، ولم يكن خط الاختلاف الطائفي محدداً في الهوية السياسية في العراق وسوريا واليمن، كما أن العامل الديني لم يكن عقبة في تماسك المجتمعات في البلدان ذات الأقليات المسيحية.
وفي الأقطار العربية ذات التنوع الديني والطائفي قامت الثقافة السياسية على الأيديولوجيا العروبية التي شكلت وعاءً ناجعاً لاستيعاب الاختلافات العقدية ضمن منظور يستند للهوية القومية الجامعة بمرتكزاتها الثلاث: اللغة والتقليد التاريخي والوعي الشعوري، وهي مفاهيم بلورها مفكرا القومية العربية الأبرزان: ساطع الحصري (المسلم) وميشل عفلق (المسيحي).
ورغم تجاوزات الأنظمة القومية العروبية السلطوية، فإنها استطاعت إلى حد بعيد تأمين السلام الأهلي في سياق مشروع الدولة الوطنية ذات المضمون القومي الكلي في مواجهة الهويات الفرعية، مستلهمة تجربة الدولة القومية الأوروبية التي بلورت هذه الصياغة في مشروعها لبناء هوية سياسية بديلة عن الهويات المفضية إلى الفتنة الأهلية.
بيد أن الثغرة الكبرى التي عانتها التجارب العربية هي الفصل غير المبرر داخل دائرة المواطنة بين اعتبارات الهوية القومية (الحقوق الثقافية) واعتبارات المشاركة (الحقوق المدنية)، فلم تنجح الدولة القومية العربية في بناء مجتمع سياسي متساو، تحكمه قيم مدنية ومعيارية مشتركة، ومن هنا ظلت المرجعية القومية مجرد واجهة أيديولوجية فاقدة لأي هندسة سياسية موضوعية، فكان من الطبيعي أن تنهار مع هزات التغيير التي أعادت المجتمعات إلى هوياتها الأهلية المتصادمة.
ودون التعرض لما كثر الحديث عنه مؤخراً حول الخرائط الشرق أوسطية الجديدة، فمما لاشك فيه أن الواقع الفعلي على الأرض بدأ يخلق عملياً معادلة سياسية جديدة من صياغاتها المطروحة نموذج «الوحدات الإقليمية المتجانسة» على أساس الهويات الاثنية والطائفية والدينية، انطلاقاً من تصور مغلوط لفكرة تعبير الكيان السياسي عن الجسم الاجتماعي.
وما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الهوية السياسية في المجتمعات الحديثة تختلف نوعياً عن الهوية العضوية بالمنظور القبلي الكلاسيكي (وحدة الأصل الحقيقي أو المتوهم). إنها هوية مفتوحة حرة، تقوم على التشارك ضمن مجال عمومي قائم على الاختلاف والتنوع.
حسب التمييز الذي يقيمه الفيلسوف الفرنسي «فرانسوا جليان» بين أنماط ثلاثة متمايزة من الكلي هي: الكوني والنمطي والمشترك، يتبين أن الكوني ليس من خصائص الأشياء، كما كان يقول المناطقة الأوائل (الصفات المشتركة بين الأشياء) بل هو موقف معياري يتأسس على الواجب والقانون، في حين أن النمطي هو المتشابه المكرر، أما الكوني الحقيقي فهو المجال المشترك القابل للتقاسم بين أفراد ومجموعات يسمها التنوع والاختلاف. من هذا المنظور يبدو أن منطق التجانس الإقصائي لا يمكن أن يكون أفقاً للسياسة من حيث هي نشاط جماعي، يربط أفرادا أحرارا منخرطين في نقاش عمومي عقلاني. فالمتشابه المكرر يلغي الاختلاف، ويفضي ضرورة إلى العنف والتصادم والاستبداد.
ما يتطلبه الواقع السياسي العربي هو الانتقال من الأيديولوجيا الكونية المجردة التي قادت إلى الخراب الراهن (أي الأيديولوجيات القومية من دون وسائط مدنية) والابتعاد عن خيار الوحدات النمطية المتجانسة المطروح راهناً، والسعي لعقد التسويات الاجتماعية الضرورية لبناء المجال العمومي المشترك الذي هو أرضية العمل السياسي في الدول الحديثة.
*نقلاً عن " الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة