وسط كل هذه الاتفاقات المنقوصة والمعلقة في الشمال، تبدو الأزمة السورية ذاهبة نحو أعوام من التأجيل والمماطلة
يعج الشمال السوري اليوم بمجموعة من الاتفاقات المنقوصة، لا يمكن وضع أي منها في حيز التنفيذ لأن الأطراف المعنية بها لم تتمم ما اجتمعت عليه ولم تحسم غايتها منها. السبب في هذه الأزمة بكل بساطة هو الولايات المتحدة الأمريكية، فهي من فتح الباب أمام كل هذه الاتفاقات بقرار انسحابها من مناطق شرق نهر الفرات، وهي من حال دون اكتمالها بعودتها عن هذا القرار والتخطيط للبقاء بشكل مختلف، وفي أماكن مختلفة مقارنة بخريطة الانتشار السابقة.
أول الاتفاقات هو الذي أبرم هاتفياً بين الرئيسين التركي والأمريكي مطلع شهر أكتوبر الماضي، وفيه قرر الرئيس دونالد ترامب سحب قواته من مناطق الشمال السوري تمهيداً للعدوان التركي عليها. لم تُكشف جميع بنود الاتفاق حتى الآن، ولكنه لم يكتمل. فقد تراجعت الولايات المتحدة عن قرار الانسحاب الكلي من الجزيرة السورية، وأخفق رجب طيب أردوغان بإنشاء منطقة آمنة على كامل حدود بلاده الجنوبية بعمق ثلاثين كيلومترا داخل الأراضي السورية.
وسط كل هذه الاتفاقات المنقوصة والمعلقة في الشمال، تبدو الأزمة السورية ذاهبة نحو أعوام من التأجيل والمماطلة في الوصول لحل سياسي، فالحل يبدأ باكتمال هذه الاتفاقات جميعها أو بعضها، وهو أمر لن يكون سهلا حتى بالنسبة لترامب
هذا الاتفاق كان أساس المشكلة، فعندما بدأ تنفيذه سارعت جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، المحلية منها والخارجية، إلى إبرام اتفاقات تواكب المتغير الجذري المتمثل بخروج واشنطن من معادلة الميدان. اتصالات ولقاءات وتحركات جرت على عجل لإنجاز هذه الاتفاقات، وما أن بدأت حتى عُلقت إلى أجل غير مسمى لأن ترامب لم يعد يريد الانسحاب من سوريا، حينها وقف الجميع حائرين في واقع جديد يقول إن الخصوم والحلفاء تجاوروا دون هدف محدد.
قبل الاتصال الذي أعطى الضوء الأخضر لعدوان "نبع السلام" كانت مناطق شرق الفرات محمية أمريكية لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. السكان هناك، عرب وكرد، كانوا ينعمون برعاية واشنطن ولا يجدون أنفسهم مضطرين للتفاوض على أصغر المكتسبات التي حصلوا عليها منذ إعلان إدارتهم الذاتية على تلك المناطق. وما أن أغلق ترامب وأردوغان سماعة الهاتف، حتى أصبح الحفاظ على أرواح الناس في تلك المناطق يتطلب من الكرد التحالف مع نصف الكوكب.
بدأ كرد الشمال اتفاقاً مع الروس يسمح بانتشار الجيش السوري في مناطق الجزيرة. وبدأ الروس في ذات الوقت اتفاقاً مع الأتراك لإشراف مشترك على المناطق الحدودية بعد إقناع قوات سوريا الديمقراطية بالتراجع إلى عمق ثلاثين كيلومترا. صحيح أن موسكو وأنقرة بدأتا تسيير دوريات مشتركة من قواتهما على الحدود، وصحيح أيضا أن قوات دمشق وصلت إلى العديد من مدن ومناطق شمال شرق نهر الفرات، ولكن الاتفاقين الروسيين لم يكتملا وفُرِغا من مضمونهما تماماً.
من الاتفاقات غير المكتملة أيضاً في الشمال، ذلك الاتفاق الذي بدأ بين قوات الأسد وقوات سوريا الديمقراطية. بقي الاتفاق محصورا في تشارك هذه القوات للجبهة ضد العدوان التركي، دون التطرق إلى أي تفصيل بشأن العلاقة المستقبلية بين دمشق والإدارة الذاتية دستورياً وسياسياً. فظل الكرد المماطلة في خوض هذا السجال إلى حين يتضح مصير علاقتهم مع واشنطن، وتتضح أيضاً نتائج جهودهم في دفع الأوروبيين نحو حمايتهم بدلاً من الأمريكيين.
هناك أيضا اتفاق مهدد بالوأد بين الروس والأمريكيين حول مناطق شرق الفرات. سمحت واشنطن لموسكو بأن تكون جزءاً ضامناً للاستقرار في هذه المناطق مقابل حماية الكرد. ولكن عندما قرر ترامب إبقاء مئات من الجند بحجة حماية النفط السوري، خسر فلاديمير بوتين التفويض الأمريكي بإدارة الأزمة السورية نحو الحل الذي يريده. احتفل الروس لأيام بانتصارهم في فرض منطقهم على الجميع في الأزمة، ولكنهم اكتشفوا أن ما عاشوه مجرد أضغاث أحلام.
ثمة اتفاق أوروبي تركي يحلم به أردوغان منذ سنوات ويتمنى أن يولد في القمة التي ستجمعه مع قادة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في لندن الشهر المقبل. يأمل الرئيس التركي في أن يحصل على تمويل ودعم الاتحاد الأوروبي لمنطقة آمنة شمال سوريا، ولكن بروكسل تحتاج في المقابل إلى ضمانات بتوقف أنقرة عن ابتزازها باللاجئين والدواعش الأوروبيين. لا يعرف أردوغان لغة أخرى غير الابتزاز، ولن يقبل الأوروبيون بقيادة تركيا لسياساتهم حتى ولو كانت شريكا في الناتو.
المشكلة أن الأمريكيين يقفون إلى جانب الأتراك في ابتزازهم للأوروبيين، وربما يكون هذا أبرز ما حصل عليه أردوغان خلال لقائه الأخير مع ترامب. اللقاء أكد أن الولايات المتحدة أو لنقل البيت الأبيض تحديداً، لا مانع لديه أبداً من بقاء تركيا في الشمال السوري وإقامتها منطقة آمنة يمولها الأوروبيون. ولكن المقابل هو عدم استهداف الكرد طالما أنهم بعيدون عن حدود تركيا، ويلتزمون باتفاق تهدئة فرضها الأمريكيون مع سريان أول هدنة في عملية نبع السلام.
الاتفاق الكردي الأمريكي سيبقى منقوصا هو الآخر، فالكرد لن يثقوا مجددا بترامب ولا يعرفون متى سيبيعهم في صفقة أخرى مع الأتراك أو ربما مع الروس. ولكن في الوقت ذاته ليس أمامهم إلا مجاراة الأمريكيين حرصا على حلم الإقليم المستقل شمال شرق سوريا. لا تفصح واشنطن عن موقفها إزاء هذا الحلم صراحة، ولكن المؤشرات تقول إنها ستفكر كثيرا قبل تكرار هذه التجربة التي بدأتها في العراق. ثمة خصوصية سورية تجعل المسألة أكثر صعوبة وتعقيداً.
وسط كل هذه الاتفاقات المنقوصة والمعلقة في الشمال، تبدو الأزمة السورية ذاهبة نحو أعوام من التأجيل والمماطلة في الوصول لحل سياسي. فالحل يبدأ باكتمال هذه الاتفاقات جميعها أو بعضها، وهو أمر لن يكون سهلا حتى بالنسبة لترامب الذي يرى في نفسه صانعاً للمعجزات، ومذللاً للعقد في الأزمات الكبرى حول العالم. صحيح أن مسيرة ترامب حتى الآن تقول إنه يجيد تعقيد الخلافات والأزمات فقط، ولكنه يبقى زعيم الدولة الأكثر تأثيرا في السياسة العالمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة