ليس بالحروب والصراعات وحدها تتجدد الدول وتزدهر الأمم كما تقول إحدى النظريات السياسية الطاعنة في التاريخ ولا تزال تجد بعض من يتبناها.
فالهند ترسي اليوم نظرية في السياسة المعاصرة تقوم على ركيزتين، الأولى فحواها أن الجمع بين المتناقضات في العلاقات الدولية سبيل ممكن التحقق شرط مراعاة حقوق ومصالح الأطراف جميعها واحترامها، أما الركيزة الثانية فجوهرها يتلخص في أن عوامل القوة الاقتصادية لدولة بعينها تتضافر من خلال التفاعل مع اقتصادات الآخرين حتى ولو كانوا في موقع الخصومة.
إن الرهان على المستقبل؛ وثبة هندية لم تأتِ من فراغ، ولم تصغْها أيديولوجيات مفارقة للواقع، ولا رفعتها أحزاب خاوية كشعارات تبريرية جوفاء، بل أفرزها إرث تراكمي، ديمقراطي وتنموي وسياسي، محصّن بحوامل اقتصادية متعددة المصادر والينابيع، تغذّيه فتوحات علمية وتكنولوجية، وتصونه حنكة سياسية منحتها القدرة على المرور بين الألغام بمهارة، ومكّنتها من ربط مصالح خصومها كما أصدقائها بخيوط متينة.
هذه هي الهند إذن؛ تلتقط فرصة استضافة قمة قادة العشرين فتطرح مشروعها الاستراتيجي على قاعدة الفائدة والمنفعة للمعمورة بأسرها. ممر تجاري يربط شبه القارة الهندية بالقارة الأوروبية مرورا بمنطقة الشرق الأوسط، مشروع عملاق يتجاوز بمضامينه الاقتصادية الفذة وعوائده الهائلة على المستهدفين به عتبات كثيرة، كونه يؤسس لصياغة شراكات سياسية محكومة بمصالح اقتصادية وبنى اجتماعية متنوعة بتنوع المجتمعات التي تشكل عموده الفقري.
قد يكون المشروع أعظم اختراق للجغرافيا السياسية المعاصرة، حيث يستثمر في ميزاتها لأجل الجميع، ويحيلها من عنصر مفجر للصراعات والنزاعات إلى عامل فعال من أجل شراكة راسخة، إنه نموذج يؤشر إلى ارهاصات أولية حول بزوغ نمط علاقات دولية تفاعلية لا تصادمية حاكتها الدبلوماسية الهندية من وحي نقيضين؛ الأول علاقاتها المتنافرة وغير المستقرة مع جارتيها الصين من جهة وباكستان من جهة أخرى، إذ تمكنت من ضبط النفس وتجنبت الانزلاق إلى صراع مع أي منهما رغم حدوث احتكاكات حدودية، والنقيض الثاني علاقاتها الراسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لم تتبنَّ الاستراتيجية الأمريكية ضد الصين.
دأبت واشنطن على العمل الحثيث من أجل دمج نيودلهي في استراتيجيتها إما لاحتواء الصين أو للانخراط في تطويقها ومواجهة صعودها الاقتصادي والعسكري لكن دون جدوى، ولذلك ستجد في المشروع الاقتصادي التجاري الهندي العابر للقارات سبيلا مفعماً بالأمل لتحقيق جانب من أهدافها المتعلقة بالتصدي لطموحات بكين بما فيه مشروع طريق الحرير، وقد انعكس ذلك بالتهليل والترحيب الأمريكي لمشروع نيودلهي والاندماج المباشر فيه.
مشروع الحزام والطريق الصيني معلن منذ سنوات، والقراءة السياسية له تفصح عن خيار اقتصادي وتجاري استراتيجي لقوى دولية عظمى، (روسيا والصين)، كجزء من الصراع على المكانة والنفوذ مع الولايات المتحدة والغرب عموما، في حين تطرح حداثة إعلان المشروع الهندي جملة تساؤلات حول البعد السياسي منه، وهل سيفجر المشروعان صراعات، أم سيكونان مثالا للتنافس الاقتصادي والتجاري بين دولهما وحسب؟ وما احتمالات وإمكانيات تكاملهما؟ بل هل يمكن أن تصبح الهند شريكا أقل التزاما مع واشنطن مستقبلا؟
التحسن المطرد في العلاقات الهندية الصينية بات ملموسا وتحديدا بعد آخر مناوشات حدودية محدودة على تخوم جبال الهيمالايا عام 2020، حيث فشلت واشنطن في استغلالها ضد بكين عندما أخفقت في تأجيج مشاعر الحكومة الهندية من خلال اقتراح تنشيط التعاون الدفاعي العسكري الأمريكي معها.
ارتفع ميزان التبادل التجاري بين البلدين الجارين عام 2021 بنسبة 43% بقيمة إجمالية تقدر بـ136 مليار دولار. لبكين مصلحة كبيرة في تعميق علاقاتها مع جارتها نيودلهي لدوافع ذاتية منبثقة من التجاور بحكم الطبيعة، ومن مصالح سياسية واقتصادية استراتيجية مرتبطة بطموحاتها الكبرى اقتصاديا وسياسيا، إضافة إلى إدراكها لوزن الهند المتنامي في مشهد العلاقات الدولية بين روسيا وآسيا من جانب والولايات المتحدة وأوروبا من جانب آخر.
من الطبيعي ألا تكون الإدارة الأمريكية مرتاحة للتقارب الهندي مع الصين؛ لأن من شأنه أن يحرم واشنطن من مفاعيل ورقة التحالف مع نيودلهي ضد بكين سواء في صراعها معها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، أو في قضية تايوان، حيث من المرجح أن تنأى الهند بنفسها في حال نشوب صراع مسلح.
فمهما كانت مآلات المشروع الهندي؛ فإنه رسم في أفق العلاقات الدولية إطارا غير مسبوق للتعاون والتفاعل بين شعوبٍ ودول وقارات بأكملها، وبرهن على نجاعة إدارة المصالح بين القوى الكبرى، بدل أن تحكمها محرضات الهيمنة ونزعات السيطرة، وأكد أنه يمكن لقوة صاعدة أن تكون شريكة مع واحدة في ساحة، ومتخاصمة معها في ساحة أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة