من المتوقع أن تبدأ إيران في دراسة وتقييم الخطوات الأمريكية الجارية وهو أمر سيأخذ بعض الوقت.
تتجه إيران للتصعيد في الخليج العربي، ومن خلال تحركات تتسم بالتخطيط وتنظيم الأهداف وتنفيذها عبر وسائل سياسية واستراتيجية واضحة، وهو ما يشير حقيقة إلى أن إيران تريد الانتقال في إدارة الأزمة مع واشنطن إلى الأطراف الأوروبية التي فشلت في الضغط على الإدارة الأمريكية للعودة للتفاوض، أو على الأقل عدم إفشال ما تبقى من بنود الاتفاق النووي التي سعت إيران للتنصل من مواده، بصورة مرحلية وهو ما يشير إلى أن إيران تتعمد تشعيب وتوسيع نطاقات الأزمة في الخليج العربي لأطول مدة ممكنة وهو إجراء إيراني متعارف عليه منذ سنوات التفاوض الإيراني الدولي قبل التوصل للاتفاق النووي.
من المهم التأكيد على أن الخطر الإيراني واحد سواء في الممارسات أو السلوك أو التوجه ما يتطلب بالفعل مراجعات سياسية واستراتيجية كاملة إزاء ما يجري دون وضع ملف يسبق ملفا، وبالتالي فإن المراجعة السياسية والاستراتيجية في التعامل مع إيران يجب أن تضع كل الملفات على قدم التعامل
ومن الواضح أن إيران اتبعت في إدارة المشهد الراهن مسارات عدة؛ الأول: الانتقال من المواجهة مع الولايات المتحدة، والتي لم تجرؤ على الصدام المباشر معها حتى الآن على أساس أن المواجهة، كما تراها مؤجلة وليست عاجلة حيث كانت إيران تتعامل من منطق عدم وجود أولويات في المواجهة، وظلت تضغط في مسار التفاعل مع تصاعد الأزمة ورسم سيناريوهاتها لآجال ممتدة، وهو ما استمر حتى الآن. بمعنى أنها لا تتعجل الصدام المباشر مع الإدارة الأمريكية بل التأكيد على مسعاها للتفاوض بدون شروط مع العمل مع الجانب الأوروبي انطلاقا من حرصها على عدم خسارة الأوروبيين باعتبارهم أطرافا مسؤولة في النطاق الخاص بالاتفاق النووي. لكن من الصعب الحفاظ على الاتفاق النووي لا سيما أن هذه المرحلة تتطلب رشادة سياسية حقيقية على الأقل من الجانب الإيراني، خاصة أن المراوغة الإيرانية والابتزاز السياسي الإيراني، هما شعار إيران في التحرك والعمل على تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية في آن واحد ووفق حسابات مصلحية في المقام الأول والأخير.
الثاني: الانتقال في المواجهة إلى أطراف أخرى، خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وقد بدأت بالمواجهة مع بريطانيا ردا على ما جرى في جبل طارق، وكان لا بد من نقل رسالة مهمة للجانب البريطاني بأنها لن تسمح بأي تنازلات في المواجهة التي بدأت، ولهذا أطلق المسؤولون الإيرانيون تهديداتهم وتأكيداتهم على أنهم قاموا باحتجاز الناقلة البريطانية ردا على ما جرى من السلوك البريطاني. لقد كانت الرسالة السياسية والاستراتيجية مهمة في هذا السياق، خاصة في إطار الرد الإيراني الذي يسجل سابقة في التعامل والمواجهة في الوقت الذي كانت فيه ردود الفعل الأمريكية عابرة، ولم تتدخل بصورة واضحة في المواجهة الإيرانية البريطانية لحين اتضاح الرؤية، وهو أمر سيمتد بطبيعة الحال إلى الأطراف الأخرى الأوروبية. ومن المؤكد أن الجانب الإيراني سعى بالأساس للانتقال من طرف لآخر، وقد يستهدف في المواجهة المستمرة على مصراعيها فتح مسارات وسيناريوهات التعامل وبصورة تحقق للجانب الإيراني مصالحه بتعقيد الأزمة على مستوياتها المختلفة لحين التوصل لحل حقيقي مع الجانب الأمريكي المعني بالأساس بكل التحركات الإيرانية الحالية.
الثالث: من المتوقع أن تبدأ إيران في دراسة وتقييم الخطوات الأمريكية الجارية والتي تستهدف تشكيل تحالف دولي أو أوروبي لمواجهة التحركات الإيرانية الراهنة والمتوقعة وهو أمر سيأخذ بعض الوقت ولن يكون على وجه السرعة بل سيمتد لبعض التفاصيل الخاصة. هذا إلى جانب أن الإدارة الأمريكية أمام خيار الحشد والتجميع وتحديد الأهداف والمصالح المباشرة وعدم الإغراق في التفاصيل بهدف التعامل مع المشهد الإيراني، وعدم تركه يتمدد في سياق ما يجري من تطورات تستهدف أمن الملاحة في العالم وليس في الخليج العربي، ومن ثم فإن التفاوض من أجل إنشاء تحالف دولي في حاجة لقواعد عاجلة وخطط استراتيجية تتم على وجه السرعة وليس الحديث من أعلى مع جس نبض الجانب الإيراني الذي يختبر توجهات كل طرف. والرسالة هنا أن الخطة الأمريكية للتعامل مع التهديدات الإيرانية تحتاج إلى إجراءات عاجلة لحسم المشهد السياسي والاستراتيجي المعقد والمرتبك، الذي يحتاج إلى خطوات مهمة تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا والقوى الكبرى، والهدف نقل رسالة للجانب الإيراني بالقدرة الدولية على الرد وعدم الاستمرار في المسار الراهن والمحتمل للجانب الإيراني.
الرابع: في جميع الخيارات المحتملة التي يمكن العمل من خلالها في مواجهة إيران فإن التعامل الأمريكي هو الأساس، مع الوضع أيضاً بعين الاعتبار أهمية حضور القوى الأوروبية في إدارة المشهد لاعتبارات تتعلق بالتماسك والتوافق الدولي الموحد تجاه إيران. لكن الواقع السياسي والاستراتيجي يشير إلى أن الولايات المتحدة، ولاعتبارات عديدة، هي التي يجب أن يكون دورها حاسما في التعامل، خاصة أن عين إيران على الولايات المتحدة، وليس الاتحاد الأوروبي المتهم في التقدير الإيراني بأنه فشل في إثناء الجانب الأمريكي عن الاستمرار في تفعيل منظومة العقوبات بصورة كاملة على إيران وهو الأمر الذي يدفع بوجود البدائل والفرص الأخرى في المنظور الإيراني على اعتبار أن الترويكا الثلاثية كانت قادرة على دعم إيران ولو بصورة غير مباشرة والضغط على إدارة ترامب لمراجعة بعض الخطوات أو تأجيلها، وهو ما لم يحدث في الأصل.
الخامس: سيبقى التعامل مع الأولويات الإيرانية مهما ومطروحا، ولكن في ظل التساؤل ما إن كان محاصرة السلوك الإيراني هي الأساس وتحجيم مخاطره على أمن الإقليم أهم من التوصل للاتفاق حول البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وهو من الأهمية أيضا في التناول، خاصة أن الحديث الآن على مسارات الخطر الإيراني دون تحديد معالم الخطر الاستراتيجي الذي تمثله إيران في المرحلة الراهنة.
من المهم التأكيد على أن الخطر الإيراني واحد سواء في الممارسات أو السلوك أو التوجه، ما يتطلب بالفعل مراجعات سياسية واستراتيجية كاملة إزاء ما يجري دون وضع ملف يسبق ملفا، وبالتالي فإن المراجعة السياسية والاستراتيجية في التعامل مع إيران يجب أن تضع كل الملفات على قدم التعامل بدون التركيز على ملف دون الآخر مع الوضع في الاعتبار أن الولايات المتحدة عليها أن تضع جدول أعمال بالتنسيق والتشاور مع الحلفاء حول المخطط الاستراتيجي والاستباقي في النظر للخطر الإيراني الحقيقي، والذي يحتاج بالفعل إلى تعاملات سياسية واستراتيجية تدفع إلى التركيز على تحجيم ومحاصرة أي مواقف إيرانية في الإقليم بأكمله، وليس فقط التعامل في خليج هرمز كما تريد إيران لتحقيق مكاسب الوجود والانتشار والتعامل مع ممارسة أكبر قدر من الضغوطات على القوى الكبرى سواء كانت الولايات المتحدة أو بريطانيا، وهو ما يشير بجلاء إلى طبيعة ما تخطط له إيران جيدا وما تسعى للوصول إليه في إدارتها للأزمة الحالية والمرشحة للاستمرار في المدى المنظور ما لم تتحرك الولايات المتحدة وبريطانيا .
في الإجمال سيبقى هنا أن نشير إلى ما قاله وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن إيران لا تسعى للمواجهة، لكن لديها ساحلاً بطول 1500 ميل على الخليج؛ هذه مياه إيران وسوف تحميها وجاء رده على إعلان بريطانيا عزمها تشكيل قوة أوروبية لضمان أمن الملاحة في المنطقة والسؤال وماذا عن البرنامج النووي الإيراني الذي ستتم مناقشة تطوراته وتعهدات إيران النووية خلال اجتماع طارئ في فيينا خلال الأيام المقبلة وفي ظل تطورين مهمين انتخاب رئيس وزراء جديد لبريطانيا هو بوريس جونسون، ويتوقع أن تكون مواقفه السياسية أقرب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتولي مدير جديد للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد وفاة الشخصية المركزية في تعليق ملف الأبعاد العسكرية للبرنامج النووي الإيراني يوكيا أمانو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة