الاضطراب وأحيانا التهور شكل سمة بارزة لسياسة طهران وسلوكها الخارجي في منعطفات عديدة خلال عام 2019
ثلاث صدمات تعرض لها النظام الإيراني خلال عام 2019 تبدو كفيلة لرسم ملامح تحديات العام الجديد 2020، كونها جاءت خارج مألوف تفكيره، أو لم تكن -كما بدا ذلك واضحاً- ضمن حساباته. الصدمة الأولى تمثلت بتجدد تفجر ثورة داخلية شعبية ضده. والثانية ثورة إقليمية ضده في مناطق نفوذ لطالما اعتقد أنها راسخة بالنسبة له. والصدمة الثالثة خذلان بعض العواصم الغربية لطهران حين استغاثت بها لمواجهة تداعيات انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
تستهل طهران عام 2020 وهي مثقلة بفعل سياستها بكثير من الملفات الضاغطة داخليا، وبكثير من الاشتباكات والتحديات الخارجية سياسياً واقتصادياً وميدانياً
مجمل تلك الصدمات حملت بذور استمرارها وبقائها في العام الجديد بسبب عدم معالجة أسباب تفجرها، ومن ثم ظلت ماثلة وقائمة، فالشعب الإيراني الذي ثار ضد قرار رفع سعر البنزين ثلاثة أضعاف لم تكن حياته أساساً متوقفة على هذه السلعة، إنما وجد نفسه أمام امتهان متكرر لكرامته وهو يحمل همه الأكبر في السعي لتأمين لقمة خبزه، والفوز بفرصة عمل لائقة، واحترام حقوقه، وضمان مستقبل أبنائه، وهي مطالب لم تجد أي صدى أو اهتمام لدى نظام طهران، بل واجه الثائرين بآلة قمع وصفها البعض بأنها من أشد أساليب العنف والوحشية على الإطلاق التي استخدمتها السلطات الإيرانية خلال موجات الثورة المتكررة ضدها على مدى السنين الماضية، ولو كانت أساليب القمع مجدية في معالجة هواجس وحقوق الإيرانيين لما تكررت ثوراتهم ولما توسعت دوائرها في كل عام وفي كل مرة، وهو ما ينذر بأن حالة الغليان التي تم التعبير عنها خلال تلك الموجة من ثورة الإيرانيين بقيت كامنة ومكبوتة بفعل الاستبداد والقمع السلطوي لا أكثر، لكنها متأهبة وهي قابلة للتفجر في أي لحظة طالما استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية والفساد الحكومي وغياب الحريات السياسية والاجتماعية.
على أن ما لم يكن في الحسبان في أروقة الحكم في طهران قد فاجأهم؛ وهو أن ينتفض ويثور العراقيون على حكومة بغداد التي تمثل واجهة مكشوفة في وضوح معالمها لهيمنة إيران على العراقيين ومقدراتهم وحاضرهم ومستقبلهم بجميع مستويات الهيمنة المذهبية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية، ويبدو أن طهران توهمت حين اعتقدت أن سيطرتها على منظومة حكم بغداد وتهجينها وإخضاعها لها تعني استلاب الشعب العراقي برمته وتدجينه وإخراجه من دائرة الفعل الوطني المستقل، خاصة أنها أغرقت شرائح واسعة وكبيرة جداً منه في عالم الغيبيات والأيديولوجيات الإيرانية بطابعها المذهبي، لتأتي مكاشفة العراقيين في ثورتهم دون مواربة ولبس في وجه هيمنة إيران وضد جميع أشكال ورموز وجودها في بغداد وكربلاء والنجف والبصرة، بكل ما تنطوي عليه هذه الجغرافية العراقية من دلالات ومعانٍ ورسائل.
ثورة العراقيين أقلقت النظام الإيراني أكثر من ثورة الشعب الإيراني نفسه؛ لأنها وببساطة تعني تحطيم أحلام طهران بالتوسع، وضرب هدفها بالاستقرار، وتفرض عليها مزيداً من الاستنزاف خارج حدودها، والأهم أنها ستجد نفسها في مواجهة شعب قرر التحرر من رقبة طرف خارجي أجنبي، وبذلك يطوي ثوار العراق صفحة من عمر هذا الوجود الأجنبي، ويدشن أخرى عنوانها العريض؛ استمرار المواجهة حتى تتحقق أهدافه.
الاضطراب وأحياناً التهور شكل سمة بارزة لسياسة طهران وسلوكها الخارجي في منعطفات عديدة خلال عام 2019، لكنها بمجملها عكست جوهر استراتيجية إيران في تعاطيها مع القضايا الإقليمية والدولية، هذه الاستراتيجية القائمة على الابتزاز والتهديد والتدخلات في شؤون الدول الأخرى، وفي حين أن الكثير من تلك السياسات لم تحقق مآربها وغاياتها، فإن مآلات بعضها انعكس سلباً عليها في المحافل الإقليمية والدولية، ولعل الاعتداء على أرامكو كان أسطع برهان على ذلك لجهة توحيد الموقف الدولي ضد الاعتداء ومنفذيه ورفع منسوب الشكوك إزاء النهج الإيراني غير المسؤول في عدد من قضايا المنطقة، لتأتي في سياق ذلك عمليات القرصنة التي قامت بها البحرية الإيرانية ضد عدد من السفن في المياه الدولية والإقليمية وتهديداتها للملاحة الدولية في مضيق هرمز، ليتنبّه العالم لضرورة تشكيل تحالفات دولية وأخرى أوروبية لمواجهة تلك التهديدات وتطويق تفاعلاتها وتداعياتها على المستوى العالمي وحماية الملاحة الدولية وممراتها، مع ما تتضمنه التحالفات الجديدة من تغيير في سياسات وسلوك ومواقف الدول تجاه إيران ونهجها، وتمت ترجمة ذلك تراخياً وتردداً في الموقف الأوروبي حيال مناشدات طهران لنجدتها بعد انسحاب واشنطن من اتفاقية البرنامج النووي والعقوبات التي تم فرضها عليها على خلفية ذلك، كل ذلك أسهم بشكل كبير في تقلص مساحة الحركة الدبلوماسية الإيرانية على المسرح الدولي، لتعود طهران مجدداً لسياسة الابتزاز والاستفزاز عبر التملص من التزاماتها المتعلقة بالبرنامج النووي ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي، التي كانت أساساً العامل الحاسم في وحدة المجتمع الدولي ضد النظام الإيراني قبل أكثر من عقد من الزمن، واستجلبت سياستها تلك على الشعب الإيراني كثيراً من الويلات والمآسي.
تستهل طهران عام 2020 وهي مثقلة بفعل سياستها بكثير من الملفات الضاغطة داخليا، وبكثير من الاشتباكات والتحديات الخارجية سياسياً واقتصادياً وميدانياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة