قديما قال الحكماء: "بين المعلومات يضيع العلم، وبين العلوم تضيع الحكمة". في خضم الحوادث السياسية المتسارعة تحضر المعلومات كثيراً، وتحضر العلوم قليلاً، وتغيب الحكمة في غالب الأوقات
قديما قال الحكماء: "بين المعلومات يضيع العلم، وبين العلوم تضيع الحكمة". في خضم الحوادث السياسية المتسارعة تحضر المعلومات كثيراً، وتحضر العلوم قليلاً، وتغيب الحكمة في غالب الأوقات، فيقف الباحثون والدارسون والكتاب عند مجرد تحليل الحوادث، وتفسيرها بأقرب سبب مباشر إلى الإدراك البشري. وهذا قد لا يقودنا إلى الفهم الحقيقي، والعميق للحوادث والمجريات، ولكي نصل إلى ذلك الفهم يجب أن نبتعد قليلا عن مجرد الانشغال بالحوادث الواقعة؛ ونغوص في طبقات أكثر عمقاً في جيولوجيا الظاهرة السياسية والاجتماعية والثقافية، فننتقل من التحليل السياسي إلى التحليل المعرفي المتعلق بالإدراك والوعي الجمعي للمجتمعات.
إن ثورة الشيعة في العراق -ومعها ثورة لبنان- جاءت نتيجة منطقية لتحرر السعودية من الفكرة المذهبية والطائفية السياسية التي أطلقتها حركة الصحوة بعد 1979، فكانت حركة الإصلاح في السعودية إلهاما حقيقيا عميقا لهذه الجماهير الشابة أن تعيد النظر في فكرة الطائفية
اليوم ونحن نشاهد على مدار الساعة تلك التحولات الأسطورية الهائلة التي يقوم بها شباب وشابات العراق العظيم، في المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، ذلك الجيل الذي تكون وعيه بصورة كاملة في ظل حكومات ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، والذي تربى وتعلم في مناخ تهيمن عليه، بصورة كاملة، الشعارات والرموز والثقافة الطائفية؛ فقد دخل المجتمع الشيعي في العراق في حالة من النشوة العاطفية بعد سقوط نظام البعث الذي كان يضيق عليهم ممارسة الكثير من الشعائر المذهبية المحببة إليهم. هذا الجيل الذي تربى في كنف مفهوم "البيت الشيعي"، ذلك المفهوم الذي صكته ووظفته الأحزاب الطائفية القادمة من إيران. هذا الجيل المبدع يثور ثورة عارمة على كل رموز الطائفية التي نشأ فيها، وهي تدعي أنها تحميه، وتعمل لمصلحته.. فما الذي جرى؟ وما الذي تغير؟ ولماذا الثورة على الطائفية ممن ينتمون للطائفية، ويعيشون في ظلها سواء في العراق أو في لبنان؟
هذه الأسئلة بدت محيرة للكثيرين، وتسارع البعض ليلوذ بنظرية المؤامرة، وحين أثير في ذهني هذا السؤال تذكرت مقالا نشرته في "بوابة العين" في 3 يناير 2018 تحت عنوان “إصلاحات السعودية تفجِّرُ ثورة في إيران"، وحينها كانت هناك مظاهرات عارمة في مختلف المدن الإيرانية ضد غلاء الأسعار. كانت فكرة ذاك المقال تركز على العمق الفلسفي للأيديولوجيا الدينية بين إيران ما بعد الخميني والسعودية ما بعد حادثة احتلال الحرم المكي عام 1979، في نفس العام الذي حدثت فيه الثورة الإيرانية.
حيث كانت السعودية هي النقيض الديني لأيديولوجية ولاية الفقيه التي أسس عليها الخميني نظريته الثورية، فقد مثلت السعودية التحدي الأكبر لنموذج الخميني الذي يريد أن يغيره، أو يضعفه، أو يستحوذ على مصادر قوته، وظلت العلاقة الجدلية بين النموذج الخميني في إيران، وبين السعودية مستمرة، حيث تم تغذية الوعي الجمعي الشيعي حول العالم أن النموذج الإسلامي الذي يمثل تهديداً للشيعة هو السعودية، وأن إيران تنافس السعودية في كل بقاع العالم الإسلامي، وأن السعودية وإيران هما اللاعبان الوحيدان على مستوى الأمة الإسلامية، وأن كل نجاح تحققه إيران هو خصم من قوة السعودية، وأن إيران وهي قائدة البيت الشيعي يجب أن تكون أكثر إسلامية من السعودية.. إلخ.
وحيث إن المتنافسين عادة يقلدان بعضهما البعض بصورة لا إرادية، ويسعى كل منهما للتمايز على الآخر، هنا كان مقتل النموذج الإيراني الذي نشر فكرة الطائفية في العراق ولبنان واليمن وغرب أفريقيا لتحقيق أحلام إمبراطورية قديمة تسكن العقل الفارسي. فعندما جاءت الإصلاحات الأخيرة في السعودية ابتداء من عام 2017، وحدث في المجتمع السعودي ما يشبه الثورة الاجتماعية والثقافية، سواء على مستوى الانفتاح الاجتماعي والثقافي، خصوصا وضع المرأة، أو على المستوي الاقتصادي ومحاربة الفساد من القمة.. هنا تحركت السعودية خارج الدائرة التي رسمها لها نظام آيات الله في إيران والعراق ولبنان، والتي كان يستخدمها لتبرير كل انغلاق وفساد في إيران، وكل استغلال وابتزاز للعراق، وكل استتباع للمليشيات اللبنانية والعراقية، هنا ظهرت السعودية في الوعي الجمعي الشيعي كأنها تحقق الحلم الذي يعشش في عقل وقلب كل محروم ومحرومة من متع الحياة بحجة دينية، هنا كانت السعودية تقود ثورة ثقافية واقتصادية حقيقية في نظر نقيضها الشيعي في إيران والعراق ولبنان، وهنا انفجر المجتمع الإيراني مرة وسينفجر مرات، وهنا انفجر المجتمع الشيعي في العراق، ومثله في لبنان في وجه من حرمه من متع الحياة بمبررات دينية كان جوهرها أن التشيع الإيراني في مواجهة دائمة مع من التسنن السعودي.
السعودية نجحت في إزالة أثار 1979 من خلال إجراءات سياسية سلمية قانونية، وتقبلها المجتمع السعودي بحكمة وذكاء، وثورة الشيعة في العراق انطلقت لتحقق نفس الأهداف؛ بالعودة إلى ما قبل 1979، إلى ما قبل تحكم إيران في شيعة العراق، وهيمنة "قم" على "النجف الأشرف"، انطلقت ثورة شيعة العراق، وكان أهم حدث في مظاهرات لبنان مشاركة الشيعة في الجنوب والبقاع فيها، تحرك الجميع لتحرير أوطانهم من هيمنة وغرور وتحجر عقول تتحكم في "بيت الرهبة" في مدينة "قم" مقر آيات الله، وسوف يلتقي الاثنان بالعودة إلى حالة نفي التناقض بين الشيعة والسنة، وتحقيق التعايش الإيجابي الذي كان سائداً قبل 1979.
إن ثورة الشيعة في العراق ومعهم ثورة لبنان جاءت نتيجة منطقية لتحرر السعودية من الفكرة المذهبية، والطائفية السياسية التي أطلقتها حركة الصحوة بعد 1979، فكانت حركة الإصلاح في السعودية إلهاما حقيقيا عميقا لهذه الجماهير الشابة أن تعيد النظر في فكرة الطائفية، وأن تتجاوزها نحو مفاهيم أوسع للعيش المشترك، والانفتاح الاجتماعي الذي يحقق السعادة للجميع بدون عقد تاريخية، وأوهام يوظفها تجار الدين لتحقيق مصالح شخصية.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة