السياسة الإيرانية في أفريقيا.. من القوة الناعمة إلى الخلايا النائمة
يصف العديد من المختصين السياسة الإيرانية في أفريقيا بأنها تعاني من "عجز هيكلي" يجعل من المستحيل لها أن تنجح في تحقيق أي من أهدافها.
لا يمثل الاهتمام الإيراني بأفريقيا ظاهرة جديدة؛ إذ يرجع إلى ما قبل عام 1979 بسنوات، حيث ترتبط كل مخططات إيران للتوسع الإقليمي بعبور المحيط الهندي لتثبيت أقدامها على سواحل شرق القارة الأفريقية والانطلاق منها للعمق الأفريقي لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية عديدة.
وشهدت السياسة الإيرانية في أفريقيا موجتين رئيسيتين من التمدد ظهرت أولاهما خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد، كجزء من سياسة خارجية إيرانية روج لها باعتبارها تتبنى توجهات الانفتاح على دول الجنوب وفي مقدمتها الدول الأفريقية، كما روج لها باعتبارها تشكل تجربة "ناجحة" لاستخدام أدوات القوة الناعمة والشراكات الدولية العادلة القائمة على تحقيق المصالح المشتركة. ومع إخفاق الموجة الأولى من الانفتاح على أفريقيا في تحقيق العوائد المرجوة سواء على الجانب السياسي أو الاقتصادي، ومع تحول العديد من حلفاء إيران في أفريقيا إلى أعداء لها، تعود إيران مؤخراً للانفتاح على أفريقيا في موجة جديدة تتجسد الأداة الأهم فيها في صورة "خلايا نائمة" تسعى لاستغلال أوضاع الدول الأفريقية لتحويلها إلى ساحات حرب ضد أعداء إيران الإقليميين والدوليين.
ففي 24 يونيو/ حزيران الماضي نشر موقع صحيفة التليجراف البريطانية تقريراً عن بناء إيران لشبكات من خلايا إرهابية سرية في عمق القارة الأفريقية تخطط لمهاجمة أهداف أمريكية وأوروبية. وقد نقل التقرير عن مصدر أمني غربي لم يذكر اسمه أن إيران تقوم الآن بتأسيس بنية تحتية جديدة للنشاط الإرهابي في القارة الأفريقية بغرض مهاجمة أهداف غربية، ما يأتي كجزء من سعي طهران لتمديد نطاق عملياتها حول العالم.
هذه الشبكة الجديدة تخضع وفقاً للتقارير لسيطرة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وترتبط عملياتياً بالوحدة 400 من القوات الخاصة لفيلق القدس، ويمتد نشاطها ليشمل عدداً من دول أفريقيا جنوب الصحراء، إذ تنتشر في كل من السودان وتشاد والنيجر وغانا وجامبيا وأفريقيا الوسطى، وتضم قائمة أهدافها المحتملة السفارات والقواعد العسكرية الأجنبية والموظفين الأجانب في هذه البلدان.
وقد تم الكشف عن تأسيس الشبكة الجديدة في أبريل من العام الجاري، حينما أسفرت التحقيقات عن رصد خلايا تابعة لإيران في كل من تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تم تجنيد نحو 300 شاباً يعتقد أنهم تلقوا تدريباً عسكرياً في معسكرات تديرها إيران في سوريا والعراق، ووفقاً لمسؤولين بريطانيين فقد شرعت إيران في تأسيس هذه الخلايا عقب توقيع الاتفاق النوي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية عام 2015 لتمثل أذرعا بديلة لتنفيذ المخططات الإيرانية في أفريقيا.
وبعد الكشف عن خليتي تشاد وأفريقيا الوسطى في أبريل أفاد إسماعيل محمد دجيدا أحد المتورطين بالانضمام لهذه الخلايا في اعتراف مصور بأن إحدى مليشيات أفريقيا الوسطى قد تلقت دعماً مالياً إيرانياً يقدر بنحو 150 ألف دولار أمريكي من أجل تكوين مجموعة مقاتلة تستهدف الأفراد والمصالح الغربية في أفريقيا، وقد أعقب الكشف عن هذه الخلايا إصدار الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية تحذيرات لدبلوماسييها في أفريقيا من تهديدات إرهابية محتملة.
وتعد الوحدة 400 مسؤولة بشكل مباشر عن تنفيذ عمليات خارج إيران، ففي عام 2011 كُشف عن ضلوعها في التخطيط لاغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة وكذلك التخطيط لاغتيال دبلوماسيين سعوديين في باكستان، فضلاً عما كشف عنه في فبراير من عام 2012 من خطط للمجموعة تتضمن تنفيذ عمليات في كل من نيودلهي وتبليسي وبانكوك.
سوابق مماثلة
وتعد الخلايا التي جرى الكشف عنها مؤخراً امتداداً طبيعياً للنشاط الإيراني في أفريقيا جنوب الصحراء في السنوات الأخيرة، فعلى الساحل الغربي للقارة الأفريقية ضبطت قوات الأمن النيجيرية عام 2010 كميات كبيرة من الأسلحة إيرانية الصنع من بينها قاذفات صواريخ، كما تم إلقاء القبض على عنصرين إيرانيين من فيلق القدس وثلاثة مواطنين نيجيريين بتهمة حيازة الأسلحة الإيرانية لكن لم تتمكن القوات النيجيرية من إلقاء القبض على قائد عمليات فيلق القدس في أفريقيا سيد أكبر طباطبائي الذي لجأ لسفارة بلاده قبل أن يعود لطهران.
وقد كشفت تقارير الأمم المتحدة عن أن شحنة الأسلحة كانت في طريقها إلى جامبيا وكانت موجهة لدعم مليشيا انفصالية سنغالية تتمركز هناك، الأمر الذي أسفر عن تدهور علاقة إيران بالبلدان الأفريقية الثلاث، وفي فبراير من عام 2013 تم إلقاء القبض على ثلاثة نيجيريين كانوا يخططون لمهاجمة أهداف غربية وإسرائيلية في لاجوس فضلاً عن عدد من الشخصيات المهمة كالسفير السعودي في نيجيريا، وبعد ثلاثة أشهر قامت القوات النيجيرية بمداهمة منزل يمتلكه القنصل اللبناني في سيراليون ليتم إلقاء القبض على ثلاثة من عناصر حزب الله كانوا يختبئون في المنزل.
كل هذا النشاط السري الإيراني في أكبر بلدان القارة الأفريقية من حيث عدد السكان جاء بجانب الدعم العلني الذي قدمته إيران للحركة الإسلامية في نيجيريا Islamic Movement in Nigeria (IMN) التي تعد الجناح السياسي للشيعة في نيجيريا بقيادة إبراهيم الزكزاكي الذي سبق له وأن هدد بأن أي عدوان على إيران سوف يتسبب في تداعيات خطيرة في نيجيريا، والذي دخل مع أنصاره في العديد من المواجهات مع قوات الأمن النيجيرية.
وفي شرق القارة الأفريقية، قامت السلطات الكينية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015 بالكشف عن مخطط إيراني مماثل، وذلك بعد القبض على خلية تتكون من شخصين إيرانيين وعدد من الكينيين كانوا يخططون للقيام بتفجيرات في العاصمة نيروبي، وقبل ذلك بنحو عام ألقي القبض على إيرانيين آخرين اتضح بعد ذلك ارتباطهم بالخلية ذاتها بعد أن حاولا الدخول للبلاد باستخدام وثائق هوية إسرائيلية مزيفة. كما سبق للسلطات الكينية عام 2012 أن ألقت القبض على إيرانيين بتهمة التخطيط لتفجير عدد من المصالح الغربية، لتبلغ محاولات إيران استهداف المصالح الغربية في نيروبي ثلاث محاولات في أربعة أعوام فقط.
أبعاد التمدد الإيراني الأخير في أفريقيا
لتقييم أبعاد الموجة الجديدة من المحاولات الإيرانية للتمدد في قلب القارة الأفريقية يمكن الوقوف على ثلاث ملاحظات أساسية، تتعلق أولاها باتساع النطاق الجغرافي للنشاط الإيراني وابتعاده عن شرق القارة الذي مثل تقليدياً الساحة المفضلة للنشاط، وتتعلق الثانية باضطرار إيران للدخول في دورات تقارب وتباعد متتالية مع الدول الأفريقية التي تنتظر منها إيران أن تلعب دور "الوكالة" للمصالح الإيرانية في القارة وهو الأمر الذي يقابل كثيراً بالرفض أو القبول الحذر، وتتصل الملاحظة الأخيرة بالمشكلات الإيرانية الهيكلية التي حالت دون بناء شراكات مستدامة وفعالة في القارة الأفريقية، بالرغم من الاهتمام المكثف في العقدين الأخيرين بسبب تناقضات إيرانية داخلية على مستوى الأهداف والوسائل.
تمدد النطاق
تشير خريطة الدول التي كُشف فيها مؤخراً عن الخلايا الإيرانية إلى اتساع نطاق النشاط الإيراني في القارة الأفريقية ليبلغ سواحل الأطلنطي في أقصى غرب القارة، هذا التمدد لا تحكمه الاعتبارات الجغرافية بقدر ما يأتي استغلالاً لأوضاع سياسية وأمنية تراها إيران مواتية، فلم يكن من قبيل المصادفة أن تضم قائمة الدول الأفريقية التي كشف فيها عن الخلايا الإيرانية عدداً من الدول غير المستقرة التي تعاني من تمدد نشاط التنظيمات الإرهابية سواء في إقليم الساحل الأفريقي أو إقليم غرب أفريقيا.
ويشير هذا الوضع إلى عدد من الدوافع الإيرانية التي وجهتها نحو استهداف هذه الدول على وجه التحديد. فمن ناحية، تشهد كل من تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وجود عسكري غربي في إطار عمليات مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يضاعف من تركز "الأهداف المحتملة" ذات الصفة العسكرية بجانب ما أشير إليه من نوايا قائمة لاستهداف شخصيات دبلوماسية وسياسية.
ومن ناحية أخرى، تعاني كل هذه الدول من هشاشة أمنية واضحة لأسباب جذرية موروثة، وأخرى مكتسبة من جراء الانخراط في مطاردة التنظيمات الإرهابية لسنوات، مما قد يتيح فرصة لاختراق أمني إيراني، ومن ناحية ثالثة، توفر عمليات التنظيمات الإرهابية في هذه الدول الغطاء المناسب الذي يمكن إيران من التنصل من أي اتهام بارتكاب الخلايا التابعة لها أعمال إرهابية، في ظل حالة التقاطع في الأهداف بين هذه الخلايا وبين التنظيمات الإرهابية الناشطة في هذه الدول بالفعل.
تغير "الوكلاء"
كعادتها في الشرق الأوسط، اعتمدت إيران على عدد من الحلفاء ليقوموا بدور "الوكالة" للمصالح الإيرانية في أفريقيا، إلا أن هؤلاء الحلفاء شهدوا اختلافاً واضحاً بين رئاستي أحمدي نجاد وروحاني، لتظهر حقيقة مهمة مفادها أن إيران عجزت في المرحلة الأولى عن بناء تحالفات قوية تقوم على شراكات استراتيجية مع دول أفريقية بعينها، الأمر الذي اضطرها لتغيير "وكلائها" في أفريقيا خلال فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز الأعوام العشرة.
فخلال موجة التمدد السابقة اعتمدت إيران بصورة كبيرة على السودان كنقطة ولوج إيرانية إلى عموم دول القارة الأفريقية في ظل التقارب الواضح بين نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير وبين القادة الإيرانيين منذ التسعينيات، لكن السنوات الأخيرة شهدت تباعداً كبيراً بين الجانبين فضلاً عن أزمات دبلوماسية حادة كانت تظهر بشكل عارض خلال سنوات سابقة، فإيران لم تفقد الحليف السوداني على إثر التغيرات السياسية الأخيرة التي أطاحت بالبشير، وإنما قبل ذلك بسنوات، حيث كانت العلامة الأبرز في تفسخ هذه الرابطة هو انضمام قوات سودانية إلى قوات التحالف العربي في اليمن، مما أدخل السودان في حالة من المواجهة العسكرية غير المباشرة مع إيران، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة حول رشادة السياسات الإيرانية التي راهنت طويلاً على الحليف السوداني.
وبالنظر للمشهد من زاوية أكثر اتساعاً، يظهر التحول الاستراتيجي في سياسة إيران والتي اعتمدت في فترة تمددها السابقة في أفريقيا على بناء تحالفات قوية مع دول شرق القارة المطلة على ساحل المحيط الهندي بحكم الجوار الجغرافي ووجود روابط تاريخية يمكن استثمارها، قبل أن تتحول في موجة التمدد الأخيرة صوب دول غرب القارة وإقليم الساحل الأفريقي والتي تعد أقل أهمية من حيث الاتصال المباشر بالأهداف الإيرانية.
ولم يأت هذا التحول نتاج مراجعة إيران لعوائد سياساتها في القارة الأفريقية، وإنما نتيجة تدهور علاقتها بالعديد من دول شرق القارة كجزر القمر وإريتريا، الأمر الذي يوضح حقيقة عجز إيران عن إقامة تحالفات مستدامة مع شركاء أفارقة مما يضطرها لتغيير نقاط ارتكازها بصورة شبه دورية، والتوجه نحو مناطق محدودة الفائدة من حيث قدرتها على تحقيق مكاسب استراتيجية لإيران.
تضارب الأهداف
يصف العديد من المختصين السياسية الإيرانية في أفريقيا بأنها تعاني من "عجز هيكلي" يجعل من المستحيل لها أن تنجح في تحقيق أي من أهدافها الرئيسية، هذا العجز الهيكلي مرده كون سياسة إيران في أفريقيا محصلة للتوازن بين جهتين داخليتين مختلفتين في التوجه والأهداف والأدوات، فمن ناحية، تتبنى الخارجية الإيرنية توجهات تسعى للحفاظ على موقع مهم لإيران بين دول الجنوب العالمي في مواجهة السياسات الأمريكية والأوروبية وهو ما يفرض بناء علاقات متكافئة مع مختلف دول الجنوب بغض النظر عن حجمها وقوتها، وفي المقابل تظهر السياسات التي يتبناها الحرس الثوري لتقيم علاقات قائمة على منطق التبعية بتجنيد بعض الشخصيات السياسية النافذة في الدول الأفريقية للقيام بتنفيذ الأجندة الإيرانية.
وفي الوقت الذي تحرص فيه الخارجية الإيرانية على الظهور بمظهر الدولة المحافظة على ثوابت العلاقات المتوازنة بين الدول كتجنب التدخل المباشر في الشؤن الداخلية والاعتماد على القنوات الرسمية في التواصل، تظهر سياسات الحرس الثوري لتقوم على تجاوز الأطر الرسمية وإقامة علاقات مباشرة مع جمعيات وتنظيمات تابعة للدول الأفريقية بدون تنسيق مع الحكومات.
هذا التضارب لا يعكس اختلافاً في الرؤى والغايات الكبرى بين الخارجية الإيرانية والحرس الثوري، بقدر ما يعكس اختلافاً في الأولويات، فالتصور الذي تتبناه الخارجية الإيرانية يقوم على بناء قاعدة من العلاقات الاقتصادية والثقافية يمكن استغلالها سياسياً وعسكرياً على المدى الطويل، بينما ينزع الحرس الثوري للانخراط المباشر في الأنشطة النوعية التي تخدم أهدافه العسكرية آنياً في ظل تنامي الضغوط الدولية على الداخل الإيراني. لكن تظل محصلة السياسة الإيرانية في أفريقيا محدودة سواء من حيث بناء شراكات سياسية واقتصادية قوية، أو من حيث إحراز اختراقات مؤثرة على جانب المواجهة العسكرية مع أعدائها، وهو ما يعد أحد الأعراض المتكررة للتناقضات الداخلية الحادة التي تعتري عملية صنع القرار السياسي في إيران.
على خلفية كل ما سبق، تأتي التطورات الأخيرة المتسارعة لتحتم منح القارة الأفريقية اهتماماً خاصاً باعتبارها أحد الفضاءات التي يمكن أن تشهد أنشطة إيرانية خطرة في المستقبل القريب، ففي ظل الأوضاع المضطربة في عموم القارة الأفريقية قد تسعى إيران لاستغلال هذه الساحة البديلة في تحقيق مكاسب نوعية، وبخلاف ما تذهب إليه التقارير الغربية فإن الأهداف الأكثر عرضة للتهديد الإيراني في أفريقيا تتعلق بمصالح جيران إيران الإقليميين لا بالمصالح الغربية، الأمر الذي يفرض ضرورة المراقبة الدقيقة لنشاط إيران القائم والمحتمل في مختلف أرجاء القارة.