رغم عدم موافقة شركاء الولايات المتحدة على قرارها الانسحاب من الاتفاق فإن أول من انصاع للقرار الأمريكي كان شركات الطاقة الأوروبية.
بدأت الولايات المتحدة فرض عقوبات على إيران، يوم الثلاثاء الماضي، شملت شراء إيران العملة الأمريكية والتجارة في المعادن النفيسة ولا سيما الذهب، وفرض حظر على قطاع السيارات وعلى صادرات السجاد والفستق الإيراني للسوق الأمريكي. والواقع أن ما ينتظره الجميع هو المرحلة الثانية من العقوبات التي ستكون لها آثار أوسع مع فرض مقاطعة شاملة على قطاع النفط الإيراني. ومن المقرر أن تدخل تلك العقوبات حيز النفاذ يوم 5 نوفمبر القادم، حيث كانت واشنطن قد منحت مهلة 180 يوما للبلدان المستوردة للنفط الإيراني وذلك مع إعلان انسحابها من الاتفاق النووي يوم 8 مايو الماضي.
ويبقى الأمر العملي متعلقاً بالتساؤل حول إمكانية نجاح الولايات المتحدة في مسعاها لتحقيق مقاطعة لأهم قطاعات الاقتصاد الإيراني بحيث تؤثر على قرارها السياسي وتضطر إلى القبول بتعديل الاتفاق. ويثار التساؤل مع الانتباه إلى أنه ورغم الارتفاع الكبير في الإنتاج الأمريكي من النفط فإن البلاد ما زالت مستوردا صافيا له، وما تزال ثاني أكبر مستورد عالميا. كما أن الرئيس الأمريكي يرغب في الوقت ذاته في الحفاظ على أسعار مقبولة للمنتجات النفطية للمستهلك، خاصة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، والتي يتصادف أنها ستجري في نفس الوقت الذي تدخل فيه العقوبات الأمريكية حيز النفاذ. أي أن الإدارة تراهن على حرمان السوق العالمي من كمية كبيرة نسبيا من العرض، ودون أن تحدث زيادة في الأسعار.
برغم عدم موافقة شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين على قرارها بالانسحاب من الاتفاق (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) فإن أول من انصاع للقرار الأمريكي حتى قبل دخوله حيز النفاذ كان شركات الطاقة الأوروبية التي كانت قد عقدت صفقات للعمل في قطاع النفط والغاز الإيراني
يمكن الإشارة إلى عدد من الاعتبارات التي يراهن البيت الأبيض عليها في تحقيق نجاح ملموس في خطته:
من أهم هذه الاعتبارات -كما نرى- قبول البيت الأبيض بأسعار للنفط تدور حول 70 دولارا للبرميل أي مستوى يقترب من مستوى الأسعار السائد في الأسواق حاليا، وهو أيضا متوسط السعر لنفط برنت خلال الشهور السبعة الماضية من هذا العام والبالغ نحو 71.2 دولار للبرميل.
الاعتبار الثاني أنه من الصعب تصور غياب كامل للنفط الإيراني بحيث تبلغ الصادرات صفرا، كما ذكرت الإدارة سابقا. وقد تراجعت الإدارة بالفعل نحو أهداف أكثر واقعية وعملية. وحدث ذلك التراجع بإعلان وزير الخزانة الأمريكي أنه يمكن النظر في إعفاء بعض الدول المستوردة للنفط الإيراني. ويرجح عدد كبير من المراقبين لسوق النفط العالمي أن العقوبات الأمريكية قد تمنع عن السوق نحو مليون برميل يومياً من النفط الإيراني، وهي في كافة الأحوال كمية كبيرة تبلغ نحو 40% من الصادرات الإيرانية الحالية.
كما أن هذا الاتجاه الأكثر عملية للإدارة تبدى في تأجيل فرضها عقوبات شاملة بحق قطاع النفط في فنزويلا. وصحيح أن الإنتاج الفنزويلي ينخفض منذ فترة من الوقت، إلا أنه كان من شأن العقوبات الأمريكية مضاعفة محنة القطاع وخفض الإنتاج الفنزويلي أكثر فأكثر.
الاعتبار الثالث يتعلق بمراهنة الإدارة الأمريكية على أنه من الصعب مخاطرة العديد من البلدان (وخاصة الشركات الكبرى فيها) بمصالحها التجارية مع الولايات المتحدة والاستمرار في التعامل في النفط الإيراني بشكل مفتوح. وليس أدل على ذلك من أنه برغم عدم موافقة شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين على قرارها بالانسحاب من الاتفاق (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) فإن أول من انصاع للقرار الأمريكي حتى قبل دخوله حيز النفاذ كان شركات الطاقة الأوروبية التي كانت قد عقدت صفقات للعمل في قطاع النفط والغاز الإيراني، إلى جانب بعض الشركات العاملة في قطاع السيارات.
في هذا المجال أيضا يلاحظ تحرك بعض البلدان بعيداً عن دعاواها السابقة بالاستمرار في استيراد النفط الإيراني لاعتمادها البالغ عليه، وعدم انصياعها للقرار الأمريكي. وربما يكون المثل البارز هنا هو الهند التي تستورد ما يزيد على نصف مليون برميل يومياً من النفط الإيراني (أو حوالي 23% من جملة الصادرات الإيرانية)، حيث أعلنت مؤسسة النفط الهندية أنها تعاقدت لشراء 6 مليون برميل من النفط الخام الأمريكي!! تتسلمها خلال الفترة بين نوفمبر ويناير القادم في استبدال جزئي للنفط الإيراني. ونرى أن القائمة هنا ستمتد لبعض البلدان الأخرى الأشد اعتماداً على النفط الإيراني. وكانت كل من اليابان وكوريا الجنوبية قد خفضت مشترياتها منذ الشهر الماضي، أي قبل دخول العقوبات الأمريكية حيز النفاذ بأربعة أشهر.
دور للمخزون لدى المستهلكين والمنتجين ومن الاعتبارات المهمة التوجه نحو الاعتماد على المخزون الاستراتيجي في البلدان المستهلكة. وتأتي على رأس هذه البلدان الولايات المتحدة ذاتها، فالمخزون الاستراتيجي لم ينخفض فيها بشكل كبير، على الرغم من وجود قرار من الكونجرس ببيع جزء من هذا المخزون لخفض عجز الموازنة الفيدرالي. فبينما يتيح هذا القرار بيع أكثر من 30 مليون برميل خلال العام المالي الأمريكي (بداية أكتوبر-نهاية سبتمبر)، إلا أنه لم يتم حتى الآن، والعام المالي يوشك على نهايته، سوى بيع نحو 13.5 مليون برميل فقط من الرصيد القائم عند نهاية العام المالي الماضي. ونرجح أن ذلك قد تم عمداً لتأجيل هذا البيع للحظة التي قد ترتفع فيها الأسعار بشدة، أو لمحاولة التأثير على الناخبين بخفض أسعار المنتجات النفطية قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
وفي السياق ذاته أعلنت بلدان أخرى عن اتجاهها للتصرف في جزء من مخزونها الاستراتيجي، حيث ذكرت مصادر يابانية مسؤولة أنه سيتم استخدام نحو 2.5 مليون برميل من المخزون بداية من شهر نوفمبر. ولا نستبعد أن تنضم بلدان أخرى أعضاء في وكالة الطاقة الدولية إلى هذا الاتجاه، وخاصة أن المخزون الاستراتيجي تم تكوينه بهدف تداوله جماعيا بين بلدان الوكالة في أوقات المخاطر التي تتعرض لها الإمدادات النفطية. وفلسفة ذلك التداول هي تحقيق التكافل بين أعضاء الوكالة، بحيث لا يكون بعض الأعضاء أكثر عرضة من غيرهم لاعتمادهم على الإمدادات من دولة معينة، أو عند تعرضهم لبعض الكوارث والمشكلات المحلية. وقد تم مثل هذا التداول بالفعل عند تعرض الولايات المتحدة لإعصاري ريتا وكاترينا في فترة حكم بوش الابن.
إلى جانب ذلك هناك أيضا المخزون الذي تحتفظ به الدول المنتجة في مستودعاتها، فقد أشارت وكالة "بلومبرج" مؤخرا إلى أن طاقة المخزون السعودي تناهز 330 مليون برميل، وأشارت إلى أنه بينما انخفض هذا المخزون في سنوات سابقة، إلا أنه عاد للارتفاع مرة أخرى. وليس من المستبعد استخدام جزء من هذا المخزون إذا ما استدعى الوضع ذلك.
بالطبع هناك أيضا الاعتبار المهم المتعلق باتفاق منظمة الأوبك وحلفائها على زيادة مستوى الإنتاج بمقدار مليون برميل يومياً. وتتوافر طاقة إنتاجية فائضة لدى بعض البلدان، بحيث يمكن بسهولة تعويض اختفاء المليون برميل يوميا المتوقعة من الصادرات الإيرانية، بل وأكثر من ذلك بكثير. وقد أعلنت روسيا مؤخراً أنه سيكون بإمكانها زيادة مستوى إنتاجها بنحو 250 ألف برميل مع نهاية العام الحالي، ناهيك عن الطاقة الإنتاجية الفائضة في السعودية والإمارات والكويت من أعضاء الأوبك، وكذا الطاقة المتوفرة لدى بعض الدول خارج الأوبك والشريكة لها في الاتفاق.
هذه هي أهم الاعتبارات التي نرى أن الإدارة الأمريكية تراهن عليها في تحقيق هدفها: عقاب إيران دون ارتفاع أسعار برميل النفط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة