حالة الإرباك والتشتت ليست نظرية أو فكرة مجردة
منذ قرن من الزمان والعالم العربي يعيش حالة دائمة ومستمرة، وبوتيرة منتظمة من الإرباك والتشتيت … إرباك يعيق أي تقدم أو تنمية، ويجهض ما تحقق من إنجاز، ويعيد المجتمعات إلى نقطة الصفر، لتبدأ دورة جديدة غالباً ما تكون بدايتها من نقطة أدنى من بداية المرحلة السابقة عليها، وهكذا بصورة متكررة إلى الحد الذي أصبحت معه مجتمعاتنا تحلم بالعودة إلى ما كانت عليه قبل قرن من الزمان، ويصاحب هذا الإرباك عملية تشتيت للجهود والطاقات تضاعف من آثار الإرباك، وتجعل العودة لاستئناف عملية النهوض لتحقيق التنمية أصعب من ذي قبل، لأن عملية الإرباك صاحبتها عملية تشتيت؛ أضاعت الجهود وأهدرت الطاقات، وحطّمت وشائج التماسك المجتمعي، وفكّكت شبكة العلاقات الاجتماعية.
في كل مرة تحدث فيها حالة إرباك، تخرج مجتمعاتنا منها أكثر تشتتاً وتشرذماً، فالتشتت دائماً ناتج عن قابليات كامنة في ثقافتنا تقودنا للاحتراب الداخلي عوضاً عن مواجهة العدو الخارجي، فالمخاطر لا تزيدنا تماسكاً كما يظن البعض، بل تزيدنا تشتتاً، وعداوةً واحتراباً.
حالة الإرباك والتشتت ليست نظرية أو فكرة مجردة، وإنما حقيقة نعيشها يومياً، ونعاني من آثارها، وتداعياتها جيلاً بعد جيل، والإرباك غالباً ما يكون من خلال مؤثر خارجي، يأتي من وراء الحدود، وأحياناً نقوم به بمبادرةٍ ذاتية، تطوعاً من عند أنفسنا.
أما التشتت فهو النتيجة التلقائية لعملية الإرباك، ففي كل مرة تحدث فيها حالة إرباك، تخرج مجتمعاتنا منها أكثر تشتتاً وتشرذماً، فالتشتت دائماً ناتج عن قابليات كامنة في ثقافتنا تقودنا للاحتراب الداخلي عوضاً عن مواجهة العدو الخارجي، فالمخاطر لا تزيدنا تماسكاً كما يظن البعض، بل تزيدنا تشتتاً، وعداوةً واحتراباً.
تتعدد وتتنوع استراتيجيات الإرباك الذي يعرقل حركة الدول والمجتمعات العربية، وتتنوع معها وبها اتجاهات التشتت الاجتماعي والثقافي، وإذا نظر معظم العرب إلى دولهم ومجتمعاتهم على مدى قرن من الزمان سيجدون تجليّات وتنوّعات لما سوف نذكر أمثلة له في السياق الآتي:
أولاً: الإرباك بالحروب والتدخلات العسكرية، فمنذ الثورة العربية الكبرى، وما نتج عنها من اتفاق سايكس-بيكو، وما تلاهما من وعد بلفور، ومعظم دول العالم العربي تعيش دورات متتالية من التدخلات العسكرية الأجنبية، أو الحروب البينية التي تهندسها وتشعلها وتطفيها القوى الدولية النافذة، والحروب هي أكثر استراتيجيات الإرباك تأثيراً من حيث عمق التأثير وجذريته، ومن حيث تداعياته الاقتصادية والاجتماعية السلبية، ومن حيث امتداد تأثيره الزماني، وأخيراً جاءت ثورات الربيع العربي البائس، وتحول ثوّاره إلى ثيران هائجة تحطم كل شيء، فتحولت العديد من العواصم العربية إلى خرائب تحتاج إلى قرن من الزمان لتعود إلى ما كانت عليه قبل الإرباك الثوري، وتحتاج المجتمعات إلى أجيال لتشفى من حالة التشتت والتشرذم التي دخلت فيها، وقد لا تخرج منها.
ثم جاءت التدخلات الإيرانية في اليمن لمحاولة توسيع دائرة الإرباك والتشتيت، وإعاقة التنمية في جزيرة العرب التي استطاعت أن تبقى بعيداً عن الأزمات العربية لأكثر من نصف قرن، ونجحت في تحقيق خطوات متقدمة في مضمار التنمية الاقتصادية، والاستقرار السياسي، والرفاهية الاجتماعية، ولكن المشروع الفارسي لا يشعر بالطمأنينة والشاطئ الغربي للخليج العربي مستقراً مزدهراً، يمثل نموذجاً للشعب الإيراني، وطموحاً للشباب الإيراني، لذلك جاءت حركة الحوثي لتقوم بمهمة تحقيق الإرباك والتشتيت في هذه المنطقة، لتعطيل خطط التنمية، وإعاقة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، وقد يكون هذا هو هدف عملاء إيران في اليمن
ثانياً: الإرباك الاقتصادي، وهو دائم ومستمر، يحدث بوسائل وطرق متعددة؛ منها التلاعب بأسعار المواد الأولية؛ خصوصاً البترول صعوداً وهبوطاً، والإرباك المستمر في أسعار العملات، والمقاطعة الاقتصادية، والمساعدات والمعونات الاقتصادية التي تحقق من الإرباك أكثر مما تحققه المقاطعة، فالمعونات تخلق حالة مستمرة من الاعتماد على الخارج؛ مما يفقد المجتمع قدرته على تفعيل طاقاته الذاتية، وأكثر وسائل الإرباك الاقتصادي تأثيراً ونفاذاً واستمرارية هي الفساد المالي والإداري؛ الذي أصبح يميز العديد من الدول العربية؛ التي صارت تحتل مواقع الصدارة العالمية في الفساد، وكل تلك الحالات من الإرباك زادت من التشتت والتشرذم الاجتماعي، وخلقت حالة من الصراع بين طبقات المجتمع؛ خصوصاً في المجتمعات التي ينتشر فيها الفساد، وتعتمد على المعونات.
ثالثاً: الإرباك الأيديولوجي المتمثل في الجماعات والحركات السياسية المتدثّرة بعباءة الدين، وعلى رأسها حركة الإخوان، التي مثلت أول وأقوى وسائل الإرباك والتشتيت في العالمين العربي والإسلامي، وتلتها من حيث التأثير ثورة الخميني وما أحدثته من تمزيق للعالم العربي انتهى بحروب أهلية قضت على ثلاث دول هي العراق وسوريا واليمن، وأخرجت لبنان من معادلة الواقع العربي، وكذلك الحركات القومية واليسارية، كل تلك الحركات والتنظيمات خصوصاً الإسلامية منها أدخلت دولها في عملية صراع مستمر، ومن ثم أربكت حركة مجتمعاتها ولم تسمح لها بأن تستمر في أي بناء أو تنمية، فكل عقد من الزمان هناك موجة من العنف الديني، أو الفتنة الطائفية، أو المحاولات الانقلابية، أو الاغتيالات السياسية، كانت هذه الحركات والتنظيمات معاول هدم لمجتمعاتها، على الرغم من أن فكرة التنظيمات الاجتماعية في الغرب مثلاً تقوم على البناء والنشاط الاجتماعي، لكن في العالم العربي تحول الأمر إلى صراع على كرسي السلطة، ومن يراجع تاريخ الدول العربية الجمهورية سيجد أن هناك دورات للإرباك منتظمة في كل منها؛ إما بحركات إسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان وما تفرع منها وانشقَّ عنها، أو الحركات القومية واليسارية.
وقد أدت الحركات الإسلامية من الإخوان إلى السلفيين مروراً بباقي التنظيمات إلى تشتيت للجهود؛ وتفتيت لطاقات المجتمع، وإهدار لهذه الطاقات في سياق سعيها للوصول إلى السلطة، والاستحواذ على كرسي الحكم بحجج دينية ليست هي المقصودة، ويكفي أن نقوم بحصر الطاقات الشبابية التي انخرطت في هذه الجماعات، وضاعت طاقتها إما بالانخراط في العنف والإرهاب، أو في سجون النظم التي تصارعت معها، لو تخيلنا أن هذه الطاقات قد تم استثمارها في البناء والتنمية والنهضة الحضارية، من المؤكد ستكون النتائج غير ما نحن عليه الآن.
رابعا: الإرباك الرمزي، وذلك من خلال تطبيق نظرية بافلوف على العرب والمسلمين، ومعاملتهم مثل كلب عالم النفس بافلوف الذي يسيل لعابه كلما سمع رنين الجرس، أصبح الذين يريدون إرباكنا وتشتيت جهودنا يعاملوننا بنفس الطريقة، فكل فترة محسوبة يظهر لنا شيء يمس المقدسات، أو يطعن في الدين، أو ينال من الرموز، فنهيج ونثور ونحطّم ونكسّر ونكتب الكتب ونعد البرامج، ثم نهدأ، وبعدها يحدث شيء مشابه، فنكرر نفس الأفعال بلا ملل ولا تفكير، من كتاب سليمان رشدي، إلى شارل إبدو، إلى القدس عاصمة لإسرائيل، ولن يتوقف العالم عن الإبداع في إرباكنا، ولن نتوقف عن الارتباك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة