إيران بين مطر شحيح وضوء غائب.. فصول العطش والظلام

في شتاء 2024، دخل الإيرانيون في مواجهة قاسية مع واحدة من أعنف أزمات الطاقة في تاريخهم الحديث، حيث شلّت الانقطاعات الكهربائية عجلة الحياة وأربكت الصناعات الكبرى.
مع انقضاء البرد في طهران، لم يأتِ الربيع بحلول مريحة، بل حمل معه وجهًا آخر للأزمة: شح المياه الذي يهدد المدن والحقول على السواء. في مشهد يبدو وكأنه يتكرر كل عام، لكن بأرقام أكثر قتامة، تتشابك العوامل الطبيعية مع الأخطاء البشرية، ليتحول الأمر من أزمة موسمية إلى معضلة وجودية.
الفصل الأول: جغرافيا الجفاف
من قمم الجبال التي كانت تتزين بالثلوج حتى أواخر الربيع إلى السدود التي تكاد تكشف قيعانها، تبدو جغرافيا إيران وكأنها تنكمش تحت وطأة الجفاف. في طهران، تراجعت احتياطات المياه في الخمسة خزانات الرئيسية إلى 13% فقط من قدرتها الاستيعابية، فيما يقترب سد "لار" من حالة الجفاف الكامل بنسبة امتلاء لا تتجاوز 1%. ثلاثة سدود أخرى بالكاد تحوي بين 6% و12% من مخزونها الطبيعي.
الأرقام على المستوى الوطني أشد قسوة؛ 19 محافظة تعيش حالة جفاف حاد، تتصدرها هرمزغان التي فقدت 77% من معدل أمطارها المعتاد، تليها سيستان وبلوشستان بنسبة 72%، وهي نسب تضعهما في مصاف أكثر المناطق جفافًا في الشرق الأوسط حاليًا. الأنهار التاريخية مثل "زایندهرود" تحولت إلى ممرات ترابية في بعض المقاطع، بينما سدود حيوية مثل "شاميل" و"نيان" في بندر عباس و"استقلال" قرب ميناب تعاني تراجعًا غير مسبوق في مخزونها.
التغيّرات المناخية فاقمت الأزمة، حيث تراجع نمط الأمطار الموسمية وتزايدت معدلات التبخر إلى ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي، ما يعني أن كل قطرة تسقط من السماء تصبح أكثر ندرة وقصر عمر في التربة والأنهار. ومع غياب خطط جدية لتوزيع الموارد، يتضاعف الضغط على المدن الكبرى التي تتشارك في استهلاك نفس الشبكة المائية الهشة.
الفصل الثاني: زراعة عطشى وصناعة متعطلة
تستهلك الزراعة الإيرانية حوالي 93% من المياه العذبة، رغم أن الأراضي المزروعة لا تمثل سوى 12% من مساحة البلاد، والقطاع الزراعي لا يساهم بأكثر من 10% في الناتج المحلي الإجمالي. ضعف كفاءة الري، واعتماد أساليب تقليدية مثل الغمر الكامل، يهدر ملايين الأمتار المكعبة سنويًا. وفي محاولة للتقليل من الاستنزاف، فُرضت قيود على "الزراعة المزدوجة"، مما أدى إلى تراجع إنتاج محاصيل استراتيجية وتهديد أمن الغذاء المحلي.
على الجانب الصناعي، تشهد القطاعات ذات الاستهلاك الكثيف للمياه، مثل صناعة الصلب والبتروكيماويات، انقطاعات متكررة في الإمدادات، ما يؤدي إلى توقف خطوط الإنتاج وخسائر بمليارات الدولارات. بعض المصانع اضطرت لتشغيل آبار خاصة، ما سرّع من انخفاض منسوب المياه الجوفية وزاد معدلات الهبوط الأرضي الذي يهدد البنية التحتية.
الأزمة لم تتوقف عند حدود الإنتاج، بل امتدت إلى سوق العمل، حيث فقد آلاف العمال وظائفهم مؤقتًا نتيجة توقف الأنشطة، لتتراكم الضغوط المعيشية على الأسر في بيئة اقتصادية مثقلة أصلًا بالتضخم وتدهور العملة.
الفصل الثالث: الطاقة في دائرة العتمة
الأزمة المائية تلقي بظلالها الثقيلة على إنتاج الطاقة، إذ تعتمد محطات توليد الكهرباء المائية على نفس الموارد المائية الشحيحة. في شتاء 2024، تسببت برودة استثنائية في زيادة استهلاك الغاز للتدفئة، ما أجبر السلطات على تحويل الإمدادات من محطات الكهرباء إلى المنازل، وأدى إلى انقطاع التيار على نطاق واسع.
الإحصاءات تشير إلى أن الفجوة بين الطلب والإنتاج الكهربائي بلغت 13,000 ميغاواط في 2023، ارتفعت إلى 18,000 ميغاواط في 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 25,000 ميغاواط بحلول نهاية 2025 إذا استمر المسار الحالي. شبكات النقل المتهالكة، ومحطات التوليد القديمة، التي لم تخضع لصيانة جادة منذ سنوات، ضاعفت من تواتر الأعطال.
العقوبات الدولية صعّبت من تحديث البنية التحتية أو الحصول على تكنولوجيا حديثة، ما جعل التحول إلى مصادر بديلة مثل الطاقة الشمسية والرياح يسير بخطى أبطأ بكثير من الحاجة الفعلية. في المقابل، تستمر سياسة دعم أسعار الطاقة في تشجيع الاستهلاك المفرط، لتتحول دائرة الأزمة إلى حلقة مفرغة.
الفصل الرابع: المستقبل على حافة الجفاف
رغم التحذيرات التي أطلقتها وزارة الطاقة ودعواتها لخفض الاستهلاك بنسبة 20%، فإن واقع الأرقام يكشف أن الترشيد وحده لن يكون كافيًا. الحلول المستدامة تتطلب إعادة هيكلة شاملة لإدارة الموارد، من تحديث شبكات الري، وتوسيع محطات التحلية على السواحل، إلى اعتماد سياسات صارمة لمنع الحفر الجائر للآبار.
على الصعيد الطاقوي، يبقى الاستثمار في الطاقة المتجددة خيارًا لا مفر منه، خاصة مع وفرة أشعة الشمس في أغلب أنحاء البلاد. لكن هذه الخطط تصطدم بعقبات تمويلية وتقنية، فضلاً عن بيئة اقتصادية لا تشجع على الاستثمارات طويلة المدى.
ومع استمرار الضغط السكاني على المدن الكبرى، وزيادة الطلب الصناعي، وتغير المناخ الذي يفرض مواسم أكثر جفافًا وأقل قابلية للتنبؤ، فإن أي تأخير في التحرك سيجعل المعالجة لاحقًا أكثر كلفة وأصعب تنفيذًا. وبين عطش الأرض وعتمة المصانع، تقف إيران أمام اختبار قد يحدد شكل مستقبلها لعقود قادمة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNyA= جزيرة ام اند امز