ليس في إيران تيارات سياسية حقيقية مثلما كانت فالأصوليون والإصلاحيون والمعتدلون باتت المسافة بينهم فكرا وممارسة وتوجها ومواقف هامشية.
لا تزال التظاهرات التي تشهدها إيران تشير إلى حالة حراك شعبي حقيقي يوشك أن يتحول إلى ثورة حقيقية احتجاجا على ما يجري من ممارسات تتعلق بتوجهات نظام الحكم في إيران، بصرف النظر عن التأكيد على قدرة النظام الإيراني على التماسك والاستمرار، وأن كل ما يجري مرتبط بمناخ عدم الاستقرار الذي تشهده إيران منذ سنوات، ويتبلور في شكل تظاهرات غير دورية، وهو أمر بات يحتاج إلى مراجعة حقيقية خارج سياقات التحليل النظري، والذي يتعامل مع إيران كصندوق أسود مثلما كان منذ سنوات بعيدة، دون النظر إلى ما يجري الآن وسط متابعة ومراقبة من دول العالم، وسيزداد الأمر سوءا بإعادة الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية من طرف واحد على إيران، كانت رفعت إثر توقيع الاتفاق حول ملف طهران النووي عام 2015 مع الدول الست الكبرى؛ حيث تستهدف الدفعة الأولى من العقوبات الأمريكية المعاملات المالية وواردات المواد الأولية، إضافة إلى قطاعي السيارات والطيران التجاري. وستعقبها في نوفمبر المقبل تدابير تطول قطاعي النفط والغاز إضافة إلى البنك المركزي الإيراني.
سيكون على إدارة الرئيس ترامب الاستمرار في فرض المزيد من العقوبات، والتركيز على دور القوى الداخلية لإحداث التغيير الحقيقي، مع الضغط على النظام الإيراني لتهميش خياراته السياسية الراهنة والمستقبلية مع رفع شعار احتواء إيرانأولا: بالتزامن مع بدء استئناف العقوبات لا تزال إيران تشهد حالة حراك شعبي حقيقي تبلور في تمدد أعمال التظاهرات، وامتدادها من مدينة لأخرى؛ حيث لم يعد الأمر مقتصرا على طهران بل امتدت إلى مدن أخرى، منها كرج وأصفهان وشيراز ومشهد، ووصلت إلى خراسان رضوي ثاني أكبر مدينة شيعية بعد مدينة قم، وهي التي تضم مرقد الإمام علي بن موسى، والرسالة التي يمكن استخلاصها أن خريطة الاحتجاجات لم تعد مركزة في مدن محددة بل امتدت إلى مدن جديدة عما كان موجودا في الأشهر الأخيرة، ومن ثم فإن اتساع رقعة التظاهرات يشير إلى حالة حراك شعبي حقيقي يوشك أن يتحول إلى عمل ثوري وشيك، ويحتاج لاستكماله إلى قوة دفع حقيقية، وتماسك القوى الداخلية على مختلف درجاتها بصرف النظر عن تأثيراتها الحقيقية، والتي ما زال النظام الإيراني يتعامل معها على أنها تظاهرات اقتصادية، ويريد أن يظهرها في إطار واحد انطلاقا من فكر المؤامرة، والتآمر على الاستقرار الإيراني، وأن القوى الخارجية تريد أن تعبث بأمن إيران في ظل التصميم على إدارة ملف العقوبات بصورة انفرادية، وتحرك أمريكي يسعى إلى تطويق إيران والتعامل معها على أنها أكبر تحد للاستقرار في المنطقة بأكملها.
ثانيا: تنتقل حالة التظاهرات من مناطقها التقليدية إلى مناطق متعددة، والمعنى أن إيران قد تواجه بانضمام مدن شيعية جديدة مما يشير إلى أننا أمام حالة عدم رضاء شعبي شبه كامل عن ممارسات النظام، وعدم تقبل سياساته التي يعمل بها في ظل استمرار السياسات العقيمة نفسها التي يعمل بها النظام الإيراني، ومصمم على المضي بها، وهو ما يؤكد أن هذا النظام ماض في نهجه، ولن يتراجع أمام ما يجري مكررا أخطاءه نفسها، وهو ما سوف يدفعه لاتباع آليات جديدة للعمل وفقا حسابات سياسية ومجتمعية مختلفة، خاصة أن النظام الإيراني استنفد أساليبه كافة التي سبق أن تعامل معها في حالات سابقة، ولم يعد هناك من سبيل لمراجعة مواقفه، وسياساته التي أدخلت إيران في صراع مع دول الإقليم بأكمله، ومع الدول الكبرى على وجه الخصوص.
ثالثا: ستواجه إيران في قادم الأيام -بصرف النظر عن استمرار التظاهرات أو التهدئة المؤقتة ومع فرض العقوبات- مدا قوميا جديدا، وموقفا مغايرا للقوميات، والتي لن تتوقف عند مناطق النار الاثنية فقط بما فيها القوميات الأذرية والكردية في مهاباد وفي الأحواز، ومدن تبريز وأردييل والأهواز، مما سيعطي مؤشرات شاملة بأن إيران مقبلة على تغيير حقيقي وليس شرطا أن يكون رأس النظام هو المقابل، وهو ما يدركه الجميع من يراهن على استمرار النظام أو تعثره ودخوله في نفق مظلم جراء سياساته التي يعمل بها، وهو أيضا مدعاة لحسابات سياسية واستراتيجية مختلفة لا يمكن الخروج منها، أو الجدال بشأنها في المرحلة المقبلة.
رابعا: المشكلة إذن ليست اقتصادية، خاصة بعد أن رفضت المصارف بيع الدولار بالسعر المنخفض، واضطرت الحكومة إلى تغيير موقفها، وسمحت بسوق موازية للعملة وبمرونة أكبر في بيعها لمستوردين، وخسر الريال نصف قيمته في مقابل الدولار خلال 4 أشهر، ما دفع الحكومة إلى عزل محافظ المصرف المركزي ولي الله سيف، وإنما أيضا بسبب قيم الحرية والديمقراطية والتعددية والليبرالية التي يريدها الشعب الإيراني الذي تم التنكيل به في إطار مخطط واضح ومنذ سنوات عديدة، ومن ثم فإن جزءا مما يجري في المدن الإيرانية مرتبط بحسابات سياسية داخلية، ورغبة في الانفتاح على العالم، والتحول إلى دولة كبيرة بدلا من الاستمرار في سياسات فاشلة جراء التدخل في شئون الدول المجاورة والعمل على إثارة الاضطرابات بهذه الصورة غير المسبوقة، والتي كلفت الدولة الإيرانية الكثير من الثروات، وأضاعت على الشعب الإيراني فرصا حقيقية لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل وجود 12 مليون إيراني يعانون من الفقر، وفق تقارير معدلات التنمية البشرية في العالم، وحالة الفشل الاقتصادي الكبيرة ـوانهيار وضع العملة الوطنية ناهيك عن تضرر الشركات الإيرانية جراء استئناف سياسة العقوبات، وتفعيل منظومة الضغوطات الاقتصادية الدولية حيث لن تنجح الدولة الإيرانية بوضعها الراهن في الخروج من الوضع الراهن، أو وقف تمدد الحالة الشعبية أو مواجهة العقوبات الجديدة إلا بإجراءات حقيقية تلقى قبولا شعبيا كبيرا، وهو أمر محل تشكك كبير في ظل الصراع الراهن بين القوى السياسية الداخلية خاصة الحرس الثوري، وتوجهاته التي يعلنها في مواجهة أي مطالب بالتغيير أو التفاعل الحقيقي مع الشارع الإيراني.
خامسا: ليس في إيران تيارات سياسية حقيقية مثلما كانت فالأصوليون والإصلاحيون والمعتدلون باتت المسافة بينهم فكرا وممارسة وتوجها ومواقف قليلة وهامشية، ومن ثم فليس صحيحا أن هذا التيار أو ذاك سيستطيع أن يحسم المواجهة لصالحه هذه المرة، فهذا توهم خاصة أن التظاهرات استهدفت الجانبين معا إصلاحيين وأصوليين، ومن ثم فإن الأمر سيتعلق بآليات التعامل، ومن يحقق التغيير أو يستطيع حسم المواجهات لصالحه في الفترة المقبلة، في ظل التأكيد على قدرة الدولة على توظيف العنف لحسم حالة التظاهرات، ومنع تمددها في الفترة المقبلة مثلما جرى الأمر في الأشهر الأخيرة، وخروج حسن روحاني ليعلن إجراءاته للتهدئة الهشة، وإن كان الأمر هذه المرة مختلفا بصورة كاملة، خاصة أن اتساع خريطة التظاهرات ستكشف عن ظهور متغيرات جديدة للمواجهات في الشارع الإيراني، والتي ستغذي من حالة المواجهة حتى مع احتمال تكرار النظام الإيراني خطابه السياسي والإعلامي باستهداف إيران داخليا، والسعي لإفشال الثورة الإيرانية، وجرها إلى دوائر جدلية، والعمل على إفشال الحركة الإيرانية في العالم الإسلامي، وغيرها من مترادفات الخطاب السياسي الإيراني التي ما زال يكررها في كل حالة من حالات الحراك الشعبي.
سادسا: إن التدخل الأمريكي في الداخل الإيراني لم يتم بعد بالصورة التي يرى فيها البعض تدخلا حذرا ومحسوبا، وربما متخوفا من ردود الفعل الإيرانية في هز أمن الإقليم بأكمله، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي ترامب للمطالبة بتكرار نموذج كوريا الشمالية مع إيران مع الفارق، والانتقال من المواجهة غير المباشرة إلى الحوار المباشر عبر آليات يتم الاتفاق عليها، لكن إيران ليست كوريا الشمالية بالفعل خاصة مع خطوة فرض العقوبات، ومن ثم فإن اعتراضات وتحفظ الحرس الثوري على الاندفاع الإيراني المحتمل -بصرف النظر عن الموقف المعلن- تجاه المبادرة الأمريكية قد يتم كما يتصور الرئيس الأمريكي، خاصة أن إيران تدرك أن استمرار السياسات الإيرانية في تفعيل منظومة العقوبات سيكون له تداعيات مكلفة بالفعل بعد عدة أشهر، والإشكالية الحقيقية لن تكون فقط عبر توقيع اتفاق جديد، أو مراجعة إيران سياستها والكف عن التدخل في دول الإقليم، وإنما بالفعل تقييد كامل ومستمر للسياسات الإيرانية وتفكيك شبكة العلاقات الإيرانية في بعض الدول العربية، وهو أمر سيكون صعبا على إيران القيام به أو القبول ببعض عناصره ولو في إطار صفقة شاملة، ووفقا لحسابات المكسب والخسارة والنفقة والتكلفة والعائد، والتي ستأخذ بعض الوقت، ومن ثم سيكون على إدارة الرئيس ترامب الاستمرار في فرض المزيد من العقوبات، والتركيز على دور القوى الداخلية لإحداث التغيير الحقيقي مع الضغط على النظام الإيراني لتهميش خياراته السياسية الراهنة والمستقبلية مع رفع شعار احتواء إيران.
لن تخرج إيران من حالة التظاهرات الراهنة بالسياسات نفسها التي تعمل بها كل مرة، ومن المؤكد أن هذه السياسات استنفذت تأثيرها بالفعل، وقد يكون مطروحا في المدى المنظور إجراء حالة من التغيير من داخل النظام على اعتبار أنه أولوية مهمة لإقناع الشارع الإيراني بالتغيير السياسي المنشود، والعمل على استيعاب مطالب المتظاهرين خاصة الاقتصادية، ومن ثم فإن المراجعات السياسية للنظام الإيراني تتطلب إما الإقدام على تدوير حساباته بالكامل داخليا وخارجيا، وإما التصميم على الاستمرار والوصول إلى أقصى الخيارات التي قد تتطلب في هذه الحالة الاصطدام المبكر مع الولايات المتحدة، أو الدخول في لعبة التفاوض من جديد مع العمل على توجيه الرسائل الحذرة بأن إيران ما تزال دولة قوية وكبيرة، وأنها لن تقدم على تنازلات من أي نوع، وستبقى الكلمة الأولى والأخيرة في يد الشعب الإيراني لتقرير مصيره بصرف النظر عن الدعم الذي قد يجده من الخارج ومن الولايات المتحدة ليتحرك ويثور في مواجهة هذا النظام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة