هذا الموقف العربي الجماعي يؤسس لما هو آت، ويعكس رؤية عربية استراتيجية واعية للتعامل مع الخطر الإيراني.
خرج الاجتماع الوزاري العربي، الذي عُقِد مؤخراً في القاهرة بنتائج سياسية بالغة الأهمية على صعيد العمل الجماعي العربي المشترك، ومن أهم هذه النتائج بلورة رؤية عربية جماعية مشتركة للتهديد الاستراتيجي الإيراني للأمن القومي العربي.
هذه الإدانات ليس للبلاغة اللغوية، بل لتحديد الموقف العربي الجماعي ووضع النقاط على الحروف في مجمل ملفات الخلاف العربية الإيرانية، وهذه الشمولية في الطرح من جانب البيان الختامي تبلور مصادر التهديد الإيراني جميعها، وتصنّفها طبقاً للقرارات الأممية والقانون الدولي.
أهمية هذه الرؤية تتمثل في أن أحد أهم ثغرات الموقف العربي في التعاطي مع إيران تكمن في غياب الرؤية الجماعية العربية لإيران، وعدم الاتفاق على ماهية هذا البلد، وهل هو صديق أم عدو؟، وهذا الأمر ليس عابراً في تاريخ العلاقات العربية ـ الإيرانية، بل قديم قدم العلاقات ذاتها، والتي شهدت على مر تاريخها القديم والمعاصر فترات من المد والجزر، والتوتر والهدوء، ومن هنا تأتي أهمية بناء حد معقول من التوافق العربي حول هذا الملف الحيوي.
أحد أبرز أسباب التوتر المتفاقم في العلاقات العربية ـ الإيرانية خلال العقود والسنوات الأخيرة أن هناك طغياناً لفكر "الثورة" على فكر "الدولة"، فعلى خلاف قناعات الكثير من الباحثين، ورغم مرور نحو أربعة عقود على قيام الثورة الإيرانية، إلا أن الانفعال والشعارات الديماجوجية تطغيان على السياسة الخارجية الإيرانية على المستوى الخطابي، أما على المستوى التطبيقي فإن "الأدوات التنفيذية" للسياسات والاستراتيجيات الإيرانية تعزز بجدارة فكرة غلبة "الثورة" على التخطيط الاستراتيجي الإيراني، رغم الادعاءات المتكررة بشأن العلاقات مع الفضاءين الخليجي والعربي.
باعتقادي، أن استمرار فكر "الثورة" يرتبط بديناميات عمل النظام الثيوقراطي الإيراني ذاته، فقادته يدركون أن من الصعب عليه التعايش والتأقلم مع القانون والشرعية الدولية، لاسيما أن "أدواته" بل أطواق نجاته مثل "الحرس الثوري"، واستراتيجياته مثل خوض الحروب بالوكالة بحثاً عن التمدد والتوسع المذهبي والأيديولوجي، في حالة خصام وعداء مزمنة مع متطلبات الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
في ضوء ما سبق، كان لزاماً بناء حالة من التوافق العربي بشأن العلاقات مع إيران في المرحلة الراهنة، لاسيما في ضوء المعطيات التي تجعل من هذه الخطوة حتمية لازمة؛ للتعاطي مع التحديات الاستراتيجية ومصادر التهديد القائمة للأمن الخليجي والعربي، ومن هنا تنبثق أهمية مقررات الوزاري العربي الأخير في القاهرة، والتي يمكن حصرها في نقاط عدة أولها: وضع الأسس اللازمة لتحريك ملف التهديدات الإيرانية لدول المنطقة ووضعه على طاولة النقاش الدولي.
وفي هذا الإطار نصّ البيان الختامي الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب على تكليف المجموعة العربية في نيويورك، مخاطبة رئيس مجلس الأمن لتوضيح الخروقات الإيرانية لقرار مجلس الأمن رقم 2231، فيما يتعلق بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية وما ينطوي عليه من طبيعة هجومية تقوّض الادعاءات الإيرانية حول طبيعته الدفاعية، وما يمثله ذلك من تهديد داهم للأمن القومي العربي. وتكليف المجموعة أيضاً بمخاطبة رئيس مجلس الأمن لتوضيح ما قامت به إيران من انتهاكات لقرار مجلس الأمن 2216 بتزويد الميليشيات الإرهابية في اليمن بالأسلحة، واعتبار إطلاق صاروخ باليستي إيراني الصنع من الأراضي اليمنية تجاه مدينة الرياض بمثابة عدوان من قبل طهران، وتهديد للأمن والسلم القومي العربي والدولي، وإبلاغه بضرورة قيام المجلس بمسؤولياته تجاه حفظ الأمن والسلم الدوليين.
وهذه هي الخطوة الأولى على صعيد عرض الملف على مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي يستلزم تهيئة الأجواء لخطوات تصعيد سياسي تالية، وتطبيق دبلوماسية متدرجة تأخذ بالاعتبار مختلف المتغيرات المؤثرة في هذا الموضوع الحيوي، حيث يكتسب العمل الجماعي في هذا الشأن قوة مضاعفة، لاسيما في ظل وجود حالة شبه إجماع دولي على خطورة السلوك والممارسات الإيرانية في المنطقة الخليجية والعربية.
والنقطة الثانية تتمثل في شمولية الطرح والمعالجة للتهديد الإيراني من جانب مؤسسة العمل الجماعي العربي، حيث عدّد البيان الختامي أبعاد ومظاهر التهديد الاستراتيجي الناجمة عن الممارسات الإيرانية، حيث قرر المجلس الاستمرار في إدراج بند التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية على أجندة منتديات التعاون العربي مع الدول والتجمعات الدولية والإقليمية، والطلب من الأمين العام لجامعة الدول العربية، متابعة تنفيذ هذا القرار، وتقديم تقرير حول الإجراءات التي تم اتخاذها بهذا الشأن إلى الدورة المقبلة للمجلس، ما يعني طرح الموضوع على بساط البحث في مختلف المحافل والتجمعات الدولية بشكل جماعي عربي.
كما دان البيان أيضاً استهداف مدينة الرياض بإطلاق صاروخ باليستي إيراني الصنع من الأراضي اليمنية من قبل ميليشيات "الحوثي-صالح" الموالية لإيران، واعتبار ذلك عدواناً صارخاً ضد المملكة العربية السعودية، وتهديداً للأمن القومي العربي.وأكد حق المملكة العربية السعودية في الدفاع الشرعي عن أراضيها، وإدانة جميع الأعمال الإرهابية التي تقوم بها إيران في مملكة البحرين، وآخرها تفجير خط أنابيب النفط، واعتباره عملاً إرهابياً قامت به مجموعة مدعومة من طهران والحرس الثوري الإيراني.
كما استنكر المجلس ودان التدخلات الإيرانية المستمرة في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين، من خلال مساندة الإرهاب وتدريب الإرهابيين وتهريب الأسلحة والمتفجرات وإثارة النعرات الطائفية ومواصلة التصريحات على مختلف المستويات لزعزعة الأمن والنظام والاستقرار، وتأسيسها جماعات إرهابية بالمملكة مُموّلة ومُدربة من الحرس الثوري الإيراني و"حزب الله"» اللبناني الإرهابي، والذي يتنافى مع مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وفقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأكد دعم مملكة البحرين في جميع ما تتخذه من إجراءات وخطوات لمكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية للحفاظ على أمنها واستقرارها.
ودان المجلس كذلك استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث «طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى»، وتأييد الإجراءات والوسائل السلمية كافة التي تتخذها دولة الإمارات العربية المتحدة لاستعادة سيادتها على جزرها المحتلة طبقاً للقانون الدولي.
كذلك، دان المجلس سياسة الحكومة الإيرانية وتدخلاتها المستمرة في الشؤون العربية، وطالبها بإيقاف دعم وتمويل الميليشيات والأحزاب المسلحة في الدول العربية، خاصة تدخلاتها في الشأن اليمني، والتوقف عن دعمها للميليشيات الموالية لها والمناهضة لحكومة اليمن الشرعية، وتهديد الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
ودان المجلس واستنكر تصريحات المسؤولين الإيرانيين التحريضية والعدائية المستمرة ضد الدول العربية، وطالب حكومة طهران بالكف عن هذه التصريحات العدائية والأعمال الاستفزازية التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
وقرر أيضا، حظر القنوات الفضائية الممولة من إيران، والتي تُبَث على الأقمار الصناعية العربية، باعتبارها تشكل تهديداً للأمن القومي العربي، من خلال إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية.
هذه الإدانات ليس للبلاغة اللغوية، بل لتحديد الموقف العربي الجماعي ووضع النقاط على الحروف في مجمل ملفات الخلاف العربية الإيرانية، وهذه الشمولية في الطرح من جانب البيان الختامي تبلور مصادر التهديد الإيراني جميعهاً، وتصنّفها طبقاً للقرارات الأممية والقانون الدولي، كما تحدد وضعية "حزب الله" اللبناني، الذي اعتبره البيان الختامي "منظمة إرهابية"، متناولاً بمكاشفة وشفافية تامة في واحدة من المراحل التاريخية العربية الحرجة، التي تستلزم الاصطفاف في مواجهة محاولات تدمير ما تبقى من أسس الامن الجماعي العربي المشترك.
موضوعياً، كان هذا الموقف العربي مطلوباً بإلحاح، لاسيما بعد تزويد الحوثي صواريخ بعيدة المدى وتدبير تفجيرات إرهابية في البحرين، فضلاً عن تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني التي قال فيها "هل يمكن اتخاذ قرار حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا والخليج من دون أخذ الموقف الإيراني في الاعتبار" ليطوّر ويفاقم ما ورد على لسان رموز التشدد الإيراني الذين تباهوا باحتلال أربع عواصم عربية، وأن إيران أصبحت "إمبراطورية عاصمتها بغداد".
هذا الموقف العربي الجماعي يؤسس لما هو آت، ويعكس رؤية عربية استراتيجية واعية للتعامل مع الخطر الإيراني وفق ما أنتجته مقررات الشرعية الدولية، عبر اللجوء المحتمل إلى مجلس الأمن للعمل تحت غطاء أممي يدعم أي تحرك عربي جماعي يضمن مصالح الدول والشعوب التي تتعرض لتهديدات إيران وأذرعها الأيديولوجية المسلحة في المنطقة العربية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة