هل هيأت الغطرسة لنظام الملالي الاعتقاد بأن أوروبا سوف تتنكر للولايات المتحدة الأمريكية على المدى الطويل؟
هل هيأت الغطرسة لنظام الملالي الاعتقاد بأن أوروبا سوف تتنكر للولايات المتحدة الأمريكية على المدى الطويل وتمضي في طريق مخالف للعقوبات الأمريكية عليها؟
يعلم القاصي والداني أن العلاقة ما بين أوروبا والولايات المتحدة، ورغم كل ما اعتراها من توتر في سنوات الرئيس ترامب، إلا أنها تبقى زواجا كاثوليكيا منذ زمن الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وعليه فإن العارفين ببواطن تلك العلاقة يدركون تمام الإدراك أن أوروبا سوف تمضي في فلك الرئيس ترامب، وستترك نظام الحكم في إيران على قارعة الطريق وحيدا دون سند مادي أو دعم أدبي.
إيران كانت تدرك منذ البداية أنها أمام فكرة واهية، ومع ذلك كانت تخادع نفسها على أمل أن تضع العصا بين دواليب العلاقات الأمريكية الأوروبية، وهذا ضرب من ضروب الوهم الإيراني الذي يهيئ لها أيضا أحلام الهيمنة على المنطقة الخليجية وربما الشرق أوسطية، من خلال تصدير ثورتها غير المباركة.
والشاهد أنها ليست الحسابات الأخلاقية فقط التي تجعل أوروبا مرغمة على الوفاء والولاء للولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا الحسابات البراجماتية، والأرقام أصدق في حكمها، فكيف للأوروبيين أن يضحوا بتعاملات تجارية مع أمريكا قوامها نحو ثمانمائة مليار دولار، في مقابل عشرة مليارات دولار في أحسن الأحوال مع إيران؟
خلال الشهرين الماضيين سمعنا من الأوروبيين عن فكرة كانت في الأصل هيولية "فيزيائية" ولم يكن لها حظ من النجاح، وهذا ما قلنا به في الحال، وتدور حول ابتكار آلية للتعاون التجاري مع طهران، بحيث تستورد أوروبا النفط الإيراني، لكنها في المقابل لا تسلم لإيران العوائد المالية في صورتها المعروفة، لكنها تنشئ صندوقا تجمع فيه تلك الأموال لتستفيد منها إيران إذا أرادت شراء سلع أو منتجات أوروبية.
الفكرة من الأصل عدمية، ومرد ذلك أنها كانت لتصلح قبل مائة عام أو يزيد، وقبل أن يظهر النظام المالي العالمي "بريتون وودز " إلى الوجود، لكن في زمن "السويفت كود" الذي تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بتلابيبه، لم يعد ممكنا فكرة المقايضة بالمرة.
الأمر الآخر هو أن إيران كانت تدرك منذ البداية أنها أمام فكرة واهية، ومع ذلك كانت تخادع نفسها على أمل أن تضع العصا بين دواليب العلاقات الأمريكية الأوروبية، وهذا ضرب من ضروب الوهم الإيراني الذي يهيئ لها أيضا أحلام الهيمنة على المنطقة الخليجية وربما الشرق أوسطية، من خلال تصدير ثورتها غير المباركة.
والثابت أن الأوروبيين أيضا كانوا يخدعون أنفسهم، وها هي تتكشف لهم الحقائق تباعا، والبداية من عند الدولة التي ستكون المقر لهذه الآلية، ومعنى ذلك أنها الدولة التي ستعلن الغضب والحرب الأدبية على "العم سام"، مع ما لذلك من تبعات واستحقاقات كارثية في مواجهة رئيس يؤمن بالقومية الأمريكية قبل أي طرح آخر، وشعاره حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض هو : "أمريكا أولا"، وهي استحقاقات تبدأ من عند التعرض للعقوبات الاقتصادية والمالية، وصولا إلى المقاطعة السياسية.
ثم خذ عندك الشركات الكبرى الأوروبية التي بدأت بالفعل مقاطعة إيران؛ خوفا منها على مصالحها الكبرى مع الأمريكيين، مثل شركات النفط والسيارات الأوروبية، وكذا الأمر بالنسبة لعدد كبير ووافر من كبريات البنوك الأوروبية.
أضف إلى ذلك المخاوف التي تتصل بالأفراد الذين يفترض بأنهم سيقومون على تلك الآلية وما ينتظرهم من مصير يبدأ من عند منع دخولهم من الولايات المتحدة الأمريكية، وصولا إلى فرص محاكمتهم هناك وسجنهم فترات زمنية طويلة.
قبل بضعة أيام كان دبلوماسيون غربيون يكشفون النقاب عن التحدي الكبير والخطير الذي تواجهه أوروبا لتفعيل الآلية المالية المقترحة على طهران، وذلك بسبب رفض دول الاتحاد الأوروبي استضافة تلك الآلية.
أما الرفض فيشمل بداية القوى الأوروبية الثلاث النافذة: "ألمانيا وفرنسا وبريطانيا"، وفيما يمارس هؤلاء الثلاثة الكبار ضغوطا على لوكسمبورغ لاستضافة الآلية الأوروبية، ترفض الأخيرة ومن قبلها بلجيكا بعدما رفضت النمسا من قبلهما، ما يجعل انهيار الفكرة هو الواقع الحي والمعيش.
المشهد لم يكن ليغيب عن أعين الإيرانيين وهم يرون بنوع خاص مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون يتعهد بممارسة أقصى درجات الضغط على إيران بعد أسبوع من دخول سلسلة جديدة من العقوبات القاسية بحق طهران، حيز التنفيذ.
خلال مشاركته في القمة السنوية لرابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" كان بولتون يوجه رسائل مبطنة للأوروبيين، وبنوع خاص حين أشار إلى أن "إيران بدأت تحاول إيجاد وسائل لتفادي العقوبات في قطاع النفط بالتحديد وأسواق المال"، وكأنه يحذرهم من الذهاب بعيدا فيما فكروا فيه بصوت عال.
بعد بولتون كان المبعوث الأمريكي الخاص بإيران "برايان هوك" يجدد تحذير بلاده للبنوك والشركات الأوروبية المشتركة في مبادرة الآلية المشار إليها، ومتحدثا بصراحة منقطعة النظير عن خشية العواصم الأوروبية من استضافتها بسبب العقوبات الأمريكية المنتظرة عليها، وباسطا الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني وهي أن الشركات الأوروبية الكبرى منها والصغرى تفضل دوما وأبدا السوق الأمريكية على نظيرتها الإيرانية.
هل استيقظ الإيرانيون على طريق التخلي الأوروبي عن دعمهم؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، وهذا ما دفع رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني "حشمت الله فلاحت بيشه" إلى توجيه انتقادات إلى ما أسماه "التباطؤ الأوروبي في تقديم حلول عملية لمواجهة العقوبات.
المثير في تصريحات "حشمت بيشه" والتي تكشف لنا الحقيقة المراوغة للنظام الإيراني، هو وصفه طبيعة العلاقات الإيرانية الأوروبية بـ"الشكلية"، وكأن لسان حاله ينطق بأنها ليست شكلية فقط، بل هشة إلى أبعد حد ومد، وأنها في القريب العاجل ستكون قربانا على مذبح العلاقات الأمريكية الأوروبية العتيد منذ زمان وزمانين.
هل بدأ الأوروبيون في الاستفاقة وفهم طبيعة النظام الإيراني على حقيقته؟
بلا شك الأوروبيون مدعوون اليوم لتأمل ما أشارت إليه الأيام القليلة الماضية "إميلي لانداو" الباحثة البارزة لدى معهد الدراسات الأمنية القومية ومديرة برنامجه للأمن الإقليمي والحد من التسلح، فقد أشارت إلى أن النظام الإيراني لطالما رأى في الحوافز أو الجزرات إشارة إلى نقاط ضعف لابد من استثمارها، وليست صورة لحسن نوايا يفترض أن يستجيب لها بلطف.
لم تفلح العروض الدبلوماسية ولا السياسات المالية في ردع إيران عن التسويق للإرهاب في الخليج العربي والشرق الأوسط، ولا بدلت من أفكار الملالي الدوجمائية تبديلا، وعليه فقد كان ولا يزال من المؤسف أن عددا من الأطراف الأوروبية يعتقد أن حسن النوايا يولد نوايا حسنة، رغم توافر دلائل واضحة على العكس.
ترى، ما الوجه الذي تستعد إيران لارتدائه في مواجهة الأوروبيين بعد صرفهم النظر عن طرحهم الأخير؟
ربما نشهد المزيد من الانتقام والإرهاب الإيراني على الأراضي الأوروبية، وهو الأسلوب الذي تجيده إيران أمس واليوم، ولا تحيد عنه سبيلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة