باتت إيران في عزلة عن محيطها الإقليمي، عزلة بلغت ذروتها لتصل حد المقاطعة الدولية المترافقة بأزمة داخلية تقسم البيت الإيراني.
منذ انتصار الثورة الخمينية في إيران عام 1979 دأبت "طهران" على تصدير مفاهيم الثورة إلى خارج حدودها، ولا سيما في محيطها الإقليمي العربي كما في العراق والبحرين والكويت ولبنان، والدفع بمنهج (الولي الفقيه)، ليكون الركيزة الأساسية في عقيدة البلدان المستهدفة.
ولم يكن هذا التصدير سلساً، فلا يخفى على أحد خطورة المشروع الذي يهدد كلّ مفاهيم الاستقرار في المنطقة بخلط الأوراق وتغيير مفاهيم العقد الاجتماعي والسياسي الذي يحكم الدول، وخصوصاً أن "طهران" استغلت لتعميم مشروعها الخلافات والصراعات التي تعصف بمحيطها من حين إلى آخر، لتعتلي موجتها وتفرض وجودها كأمر واقع.
كل هذا يدل على أن إيران انتقلت في استراتيجياتها السياسية من تصدير الثورة إلى تصدير الأزمة مستثمرة ثمار ما أنتجه مشروع تصدير الثورة في العقود المنصرمة لتخرج نفسها من أكبر أزمات إيران في التاريخ الحديث
أما اليوم، وبعد أن حوصر هذا المشروع عقب التكشير عن أنيابه باتت إيران في عزلة عن محيطها الإقليمي، عزلة بلغت ذروتها لتصل حد المقاطعة الدولية المترافقة بأزمة داخلية تقسم البيت الإيراني، فلم تجد "طهران" بُدا إلا أن تصدّر أزمتها إلى الخارج تصديراً كان دبلوماسياً وسياسياً، تمثل في دعم الميليشيات التي تأتمر بأمرها في لبنان وسوريا واليمن والعراق، لترفع صوتها في قلب المنطقة إلى جحيم حال استهداف إيران، وهذا ما أكدته الأعمال التخريبية الأخيرة قبالة السواحل الإماراتية، وبعدها ضرب أنبوب نفط في المملكة العربية السعودية التي تزامنت مع محاولات ضرب محيط السفارة الأمريكية في العراق. والحقيقة لا يعني كل هذا سوى بدء طهران تصدير أزمتها وبشكل علني، واستغلال ذلك على صعيدين هما على صعيد الداخل الإيراني، وعلى الصعيد الخارجي
بالنسبة للصعيد الداخلي الإيراني: فبعد محاصرة إيران، وفرض العقوبات الاقتصادية الكبرى عليها بات الداخل الإيراني – المزعزع أصلاً – أكثر اضطراباً وغليانا جراء الواقع الاقتصادي المزري الذي يعيشه المواطن الإيراني، وذلك نتيجة لسياسة إيران المتجهة نحو الخارج، وتسخير مقدرات البلاد لزعزعة الدول العربية، والمتمثل بدعم الميليشيات الخارجية كالحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وسوريا والحشد الشعبي في العراق. كل ذلك على حساب لقمة عيش المواطن الإيراني الذي ضاق ذرعاً بهذه السياسة، وبلغ هذا الضيق ذروته بعد فرض العقوبات الأمريكية التي جعلت الاقتصاد الإيراني على شفا حفرة. هذا ما دفع إيران نحو الإقدام على مثل هذه الخطوات في تصدير أزمتها لصرف أنظار المواطن الإيراني عما يجري في الداخل.
أما على الصعيد الخارجي، فلا يخفى على عاقل أن الحرب إن وقعت فلن تكون لمصلحة أحد، بل إن المنتصر فيها خاسر لما ينجم عنها من فواتير باهظة في الاقتصاد والأمن والدماء، وهي فواتير قد تستلزم عقوداً من الزمن حتى تلتئم جراحها، فإن كانت هذه هي الرسالة المبدئية لمثل هذه الأعمال التي أقدمت عليها طهران بشكل مباشر أو غير مباشر أن "لا أمن لأحدٍ وسيسود العبث في المنطقة"، فإذاً هي استفزازات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأن هذه الرسالة يعلمها الجميع، والخليج العربي عموما يدرك هذا الأمر إدراكاً واعياً، وهو مستعد لأي جديد قد يطرأ على الساحة، وهذا ما أكدت الرياض في مسار تعليقها على الأحداث الأخيرة.
أما محاولات ضرب السفارة الأمريكية في العراق، فليست لمجرد الرد على العقوبات الأمريكية على طهران بل هي رسالة بأن الحرب إن وقعت فلن تكون إيران ساحتها بل سيكون محيطُها هو ساحتها، لا سيما الأراضي العراقية التي باتت في جزء كبير منها مؤتمرة بأمر طهران، بعد أن قامت بتثبيت ميليشيات الحشد الشعبي في الواقع العراقي على الساحتين السياسية والميدانية، حتى بات مفروضا بسياسة القوة والأمر الواقع ومجاهراً بولائه التام لطهران وسياستها، ضاربا المصالح الوطنية العراقية عرض الحائط.
كل هذا يدل على أن إيران انتقلت في استراتيجياتها السياسية من تصدير الثورة إلى تصدير الأزمة، مستثمرة ثمار ما أنتجه مشروع تصدير الثورة في العقود المنصرمة لتخرج نفسها من أكبر أزمات إيران في التاريخ الحديث، فما تتعرض له إيران اليوم يعد مسألة وجود بالنسبة لها، وبالتالي فهي لن تدخر جهداً لمحاولة احتواء الأحداث لا سيما، وهي تعلم بأنها في حال تمت المواجهة فستكون الخاسر الأكبر، لأنها لن تواجه الولايات المتحدة وحدها بل ستواجه العالم بأكمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة