تحتاج علوم الدين إلى جهد عملاق لا يكفيه عُمر الإنسان بكامله، ولا تحتاج قشور الدين سوى إلى سطرين في كتاب.
قبل ألف عام ظهر كتاب الإمام أبوحامد الغزالي إحياء علوم الدين. واليوم.. تتزاحم مؤلفات وجماعات إحياء قشور الدين. يقع كتاب الإمام الغزالي في عدة مجلدات تزيد على ألفي صفحة.. وبينما يحظى الكتاب باحترام كبير لدى جمهور واسع من المسلمين.. فإنه ينال الكثير من النقد من قبل شيوخ السلفية.. لاعتماده قرابة ألف حديث ما بين ضعيف وموضوع ومنكر.
لقد انتقل عدد كبير من قادة القشور من الجهل إلى المنبر، ومن الفسوق إلى الدعوة.. ومن الجريمة إلى الجهاد! يقول البعض إنه لا قشور في الإسلام، وإن الإسلام كله لُباب، وهو قول فصيح لكنه غير صحيح.
إن كتاب الإمام الغزالي قد حمل عنوانًا مهمًّا للغاية.. ذلك أنه استخدم تعبير علوم الدين بما يحمله المفهوم من محاولة وضع أسس منهجية وعلمية للمعرفة الإسلامية.
من المؤسف أن العالم الإسلامي ظل قرونًا طويلة من دون إحياء علوم الدين.. فغلب الجمود، وطفت السطحية، وسيطر الغُلاة والمتطرفون على معظم المشهد. ومن المؤسف أيضًا أن العالم الإسلامي ظل لقرون طويلة من دون إحياء علوم الدنيا.. فغلب الجهل، وساد الضعف، وأصبح التخلف عنوانًا على عصر بأكمله.
ولقد جاءت السُّنون الأخيرة بفائض من الركاكة والبلادة.. فتأسست حركات وتنظيمات اعتمدت كلها مشروعًا واحدًا: إحياء قشور الدين. وفي كل يوم يصطدم المسلمون حول العالم, من جاكرتا إلى داكار, بفتاوى وأفكار لم يسمعوا بها من قبل. ثم إنها لا تحتاج إلى قراءة أو اطلاع لبحث قبولها أو رفضها.. فهي تنافي أدنى مواقع العقل، وأبسط قواعد الحياة.
لم يكن المشروع العالمي إحياء قشور الدين أسير دولة أو دولتين، كما أنه لم يكن أسير جماعة أو جماعتين.. بل كان مشروعًا واسعًا، وجد من يدفع به، ومن يدفع له. كما أنه وجد من يديره ويضيء عليه.. من أجهزة نافذة في عواصم عديدة.
لقد انتقل عدد كبير من قادة القشور من الجهل إلى المنبر، ومن الفسوق إلى الدعوة.. ومن الجريمة إلى الجهاد! يقول البعض إنه لا قشور في الإسلام، وإن الإسلام كله لُباب، وهو قول فصيح لكنه غير صحيح. ذلك أن المقصود بالقشور ليس ما يقع داخل الإسلام، بل ما يقع على هوامشه من آراء وأفكار، وما يقع من بهتان وضلال.
تحتاج علوم الدين إلى جهد عملاق لا يكفيه عُمر الإنسان بكامله، ولا تحتاج قشور الدين سوى إلى سطرين في كتاب أو مشهد في برنامج أو مقطع من خطبة. إن كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر يقع في «8391» صفحة، وقراءته ربما تحتاج إلى «14» يومًا متواصلًا دون رفع الرأس عن الكتاب، ومن دون طعام أو شراب!. وقد استغرق العلامة الجزائري الشيخ عبدالحميد بن باديس في شرح موطأ الإمام مالك في الجامع الأخضر في مدينة قسنطينة بالجزائر نحو «18» عامًا متواصلة!
إن كتابًا في الفقه مثل كتاب المحلى للإمام ابن حزم يقع في أكثر من سبعة آلاف صفحة، وفيه عرض لعدد من المسائل الفقهية تصل إلى «2312» مسألة تحتوي على «546» رأيًا. ويقع كتاب البداية والنهاية لابن كثير في «12» مجلدًا، أما كتاب جمع الجوامع للإمام السيوطي فيقع في «25» مجلدًا. يقول مؤرخون: "إن التفسير الأصلي للقرآن الكريم جامع البيان للطبري كان يقع في ثلاثين ألف صفحة، لكن طلابه رأوا أن هذا الحجم هو أكبر من احتمال الاستيعاب.. فاختصره في حجم أقل. أما تفسير الرازي فيقول المؤرخون: إنه ذكر عشرة آلاف مسألة في تفسير سورة الفاتحة وحدها. ويقع تفسير أبويوسف عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار القزويني وعنوانه حدائق ذات بهجة في مئات المجلدات. وقد جاء في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، والذي صدر في ثلاثين مجلدًا قول السمعاني عن كتاب حدائق ذات بهجة للقزويني.. إنه يقع في ثلاثمائة مجلد. ويصل كتاب الإمام محمد متولي الشعراوي خواطري حول القرآن الكريم حسب طبعة عام 1991 إلى «24» مجلدًا تضم أكثر من خمسة عشر ألف صفحة. يمتلك العلماء الحقيقيون والباحثون الجادون التواضع والهدوء، ذلك أنهم يدركون حجم ما يتوجب قراءته من تراث الفقه والتفسير وإنتاج السابقين في العقيدة وأصول الدين. ويمتلك قادة القشور الثقة والغرور.. إنهم يتحدثون على المنابر والشاشات بقدرٍ هائل من الخيلاء والاستكبار.. تعظيماً للنفس، وازدراء للآخرين.. تبجيلًا للذات، واحتقارًا لعموم المسلمين.
يكفي أن تبدأ في الاستماع إلى أحدهم.. لتصاب بالذهول. حاول مرة أن تقوم بـتفريغ الخطبة أو اللقاء الذي يلوكه أحدهم. تأمّل الكلمات بعد تفريغها، من دون الأثر الاستعراضي أو المؤثرات الصوتية.. سوف تجدُ كتلةً من السفه والهراء.
لا نهاية للهراء، ففوق كل جاهل من هو أجهل، وفوق كل متطرف من هو أكثر تطرفًا وأعلى غلوًّا. لقد اتهمت بعض الجماعات المجتمع الإسلامي بالجاهلية، ثم جاء تنظيم القاعدة ليتهم هذه الجماعات في دينها.. ثم جاء تنظيم داعش ليتهم تنظيم القاعدة بالردّة.
في ربيع عام 2015 بثّ تنظيم القاعدة تسجيلًا لثلاثة من المسؤولين الشرعيين فى داعش يُفتون بردّة الملّا عمر زعيم حركة طالبان وأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة. أفتى قادة داعش بكُفر حركة طالبان.. لأنها فتحت سفارات لدى النظم الكافرة، وتعاملتْ مع النظام الدولي الكافر.. ثم كَّفروا تنظيم القاعدة لأنه لم يقُم بتكفير حركة طالبان. وبذلك يصبح الملّا عمر مرتدًّا، كما يصبح أسامة بن لادن الذى لم يقر بردّة الملا عمر وحركة طالبان.. مرتدًّا هو الآخر! وهكذا.. عبث لا متناه، وفوضى لا مثيل لها.. ظلمات بعضها فوق بعض.
يحتاج العالم الإسلامي إلى الجرأة على وضع نقطة النهاية لهذه الحقبة العدمية من تاريخ الإسلام. لا يمكن أن تمضي أمتنا خطوة واحدة إلى الأمام بينما يحكم العقل والفكر.. تحالف السفهاء من الناس.
تحتاج الأمة إلى إحياء علوم الدين: الاعتدال والتسامح، الوسطية والرحمة. كما تحتاج أمتنا إلى إحياء علوم الدنيا: الفيزياء والرياضيات، والهندسة والكيمياء.. إلى استئناف العصر الذهبي للعلم، واللحاق بالعالم المعاصر.
العلم هو الحل.
نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة