جبل الجليد.. لماذا تجددت الاحتجاجات في إيران؟
ما يحدث في إيران هو عبارة عن مواجهة طويلة الأمد بين الشارع والنظام الحاكم الذي دفع كلفة لا تبدو هينة.
لا يمكن اختزال الأسباب الحقيقية للاحتجاجات الحالية التي تشهدها إيران، منذ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في مجرد إعلان حكومة الرئيس حسن روحاني، بعد منحها الضوء الأخضر من المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي (الذي يضم رؤساء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى جانب مسؤولين آخرين) عن رفع أسعار الوقود.
فرغم أهمية وقوة تأثير هذه الإجراءات على الشارع الإيراني في ظل ما يواجهه من أزمات معيشية مزمنة، إلا أنها لا تمثل سوى قمة جبل الجليد الذي يختفي قسمه الأكبر تحت سطح الماء، ويتمثل في وجود أسباب متراكمة أدت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية داخل إيران على مدى العقود الأربعة الماضية.
ومن هنا، ربما يمكن تفسير أسباب تكرار اندلاع تلك الاحتجاجات رغم الإجراءات القمعية التي تتخذها السلطات في التعامل معها، وتحولها من مجرد تعبير عن الاستياء عن تردي الأوضاع المعيشية إلى آلية للمطالبة بإجراء تغييرات سياسية، على نحو بدا جليا في تبنيها شعارات مناهضة للمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وقائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري قاسم سليماني.
توقيت غير مواتٍ
يمكن القول إن حكومة الرئيس حسن روحاني اختارت التوقيت الأسوأ للإعلان عن الإجراءات الخاصة برفع أسعار الوقود، وذلك لاعتبارات ثلاثة رئيسية: يتمثل أولها في أن هذه الإجراءات تتوازى مع تصاعد حدة التداعيات القوية التي فرضتها العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني، والتي افتتحت حزمتها الثانية التي طبقت في 5 نوفمبر 2018، عامها الثاني خلال الشهر الحالي.
إذ تراجعت الصادرات النفطية الإيرانية من 2.6 مليون برميل في مايو/ أيار 2018 إلى نحو 160 ألف برميل في أغسطس/ آب 2019، وتجاوز معدل التضخم حاجز الـ40% في بعض الفترات، كما وصل انهيار سعر العملة الوطنية إلى درجة أن الدولار بلغ في بعض الأحيان نحو 15 ألف تومان، على الرغم من أن سعره الرسمي الذي حددته الحكومة لا يتجاوز 4200 تومان.
ومن هنا، فإن هذه الإجراءات فرضت ضغوطا قد تكون غير مسبوقة على الإيرانيين، على نحو دفعهم إلى التعبير عن استيائهم بإغلاق الطرق واستهداف بعض المنشآت الاقتصادية والتظاهر في المناطق التي تحظى بأهمية خاصة بالنسبة للنظام، على غرار بازار طهران الكبير.
وينصرف ثانيها، إلى أنها تأتي قبل فترة وجيزة من حلول الذكرى الثانية للاحتجاجات القوية التي شهدتها إيران في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017 وبدأت في مدينة مشهد ثم امتدت إلى نحو 100 مدينة وقرية حتى وصلت إلى العاصمة طهران، وبالطبع فإن ذلك يضفي أهمية وزخما أكبر على الاحتجاجات الحالية، خاصة أنها اندلعت للأسباب نفسها تقريبا، والتي ترتبط بالاستياء من تردي الأوضاع المعيشية وتراجع الأداء الحكومي وانهيار البنية التحتية وغيرها.
ويتعلق ثالثها، بأنها لا تنفصل في كل الأحوال عمّا تشهده شوارع بعض العواصم العربية من احتجاجات، لاسيما في العراق ولبنان، وتكمن المفارقة في هذا السياق في أن الشوارع الثلاثة (الإيرانية والعراقية واللبنانية) اتفقت على أن الحضور الإيراني في الإقليم كان أحد الأسباب الرئيسية إلى أدت إلى تفاقم الأزمات الداخلية وتردي الأوضاع المعيشية.
فقد ندد المحتجون في العراق ولبنان بالنفوذ الإيراني على بعض المليشيات المسلحة والقوى السياسية، فيما رفض المحتجون في إيران إمعان النظام في استنزاف الخزينة الإيرانية في دعم هذه الأطراف على حساب احتواء تداعيات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، وبدا ذلك جليا في ظهور شعار "نه غزه نه لبنان، جانم فداى ايران" أي (لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران).
وبعبارة أخرى، فإن ما حدث في لبنان والعراق لقي صدى واسعا في إيران، ووصلت ارتداداته سريعا إلى شوارعها، التي ترفض أيضا الاستمرار في "المغامرات الخارجية"، التي لا تفرض أية تداعيات إيجابية على الداخل الإيراني، رغم حرص النظام باستمرار على الترويج إلى أن ما يقوم به في الخارج هو لحماية أمن واستقرار الداخل.
تأثير العقوبات
من دون شك، فإن حكومة روحاني كانت مدركة من البداية بأن ما ستتخذه من إجراءات اقتصادية لن يتم تمريره بسهولة على الساحة الداخلية، حيث إن مؤشرات الاحتقان الداخلي كانت واضحة بما فيه الكفاية، وبمعنى آخر، فإن الحكومة ورغم أنها كانت تدرك أن توقيت اتخاذ هذه القرارات ليس مناسبا، للأسباب السابق ذكرها، فإنها اتخذتها، بما يوحي بأنها كانت مضطرة إلى ذلك بالفعل، بعد أن بات واضحا أن الموازنة العامة لن تستطيع تحمل تكلفة الدعم الذي يقدم للوقود، في الوقت الذي يتصاعد فيه تأثير العقوبات الأمريكية التي حالت دون حصول إيران على قسم كبير من إيراداتها من العملة الصعبة التي كانت تأتي عبر مواصلة تصدير النفط إلى عملائها الرئيسيين.
ومن هنا، لم تعد المزاعم التي يروج لها النظام باستمرار بأنه نجح في احتواء تداعيات العقوبات الأمريكية تلقى تجاوبا أو تحظى بزخم خاص في الداخل الإيراني، بعد أن بات الشارع الإيراني على دراية بحجم الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تعرضت لها إيران بسبب السياسات التي يتبناها النظام، في الملفات التي تكتسب اهتماما خاصا من جانب القوى الدولية والإقليمية المعنية بالأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها البرنامجان النووي والصاروخي والدور الإقليمي.
آليات تقليدية
تعامل النظام الإيراني مع الاحتجاجات الحالية بالآليات التقليدية نفسها التي سبق أن تبناها في مواجهة الاحتجاجات السابقة، حيث ركز في هذا السياق على آليتين رئيسيتين: الأولى، محاولة اختزال أسباب الاحتجاجات في قرار الحكومة برفع أسعار الوقود، وهنا كان لافتا أن الرئيس حسن روحاني حرص على الترويج لما يسميه "التداعيات الإيجابية" لهذا القرار، حيث أشار إلى أنه سيصب في مصلحة الطبقة الفقيرة، بالتوازي مع تأكيد مدير مكتبه محمود واعظي على أن ما ستوفره الحكومة من رفع الدعم لن يدخل ضمن الموازنة العامة وإنما سيخصص لتقديم المساعدات النقدية لنحو 18 مليون أسرة.
وبالطبع، فإن الهدف الأساسي من ذلك يكمن في توجيه الانتباه بعيدا عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الحالية، والتي يتمثل أبرزها في السياسة التي يتبناها النظام على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي أنتجت معطيات عكسية على مستوى الشارع الإيراني.
والثانية، استدعاء نظرية المؤامرة، من خلال الترويج إلى أن ما يحدث لا ينفصل عن مخطط خارجي لتقويض دعائم النظام في الداخل، وردا على ما حققه من نتائج على الساحة الإقليمية، وهي النظرية نفسها التي سبق أن استند إليها في تعامله سواء مع الاحتجاجات التي نشبت في إيران قبل ذلك، وآخرها في ديسمبر 2017، أو الاحتجاجات التي تشهدها العراق ولبنان والتي وصفها المرشد علي خامنئي بأنها "أعمال شغب".
ويحاول النظام من خلال استدعاء نظرية المؤامرة تقليص الزخم الذي تحظى به الاحتجاجات وانعكس في تمددها أفقيا (توسع مساحتها لتشمل أكثر من 50 مدينة وقرية)، ورأسيا (تطورها من احتجاجات ذات طابع اقتصادي بحت إلى احتجاجات تحمل أبعادا سياسية)، وهو ما استند إليه في تبرير بعض الإجراءات التي اتخذها للتعامل معها.
وتتمثل أبرز تلك الإجراءات ذات البعد الأمني في مطالبة العراق بإغلاق معبر شلمجة الحدودي أمام المسافرين من الجانبين، والتهديد باستخدام القوة، مع فرض قيود شديدة على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي مثلت الآلية الرئيسية التي ساعدت في الترويج لمطالب الاحتجاجات السابقة واكتسبت أهمية وزخما خاصا في إيران منذ اندلاع ما يسمى بـ"الحركة الخضراء" في يونيو/حزيران 2009، اعتراضا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في هذه الفترة وأسفرت عن فوز الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، على نحو قوبل برفض من جانب المرشحين المنافسين مير حسين موسوي ومهدي كروبي، اللذين اتهما السلطات بارتكاب عمليات تزوير وحاولا ممارسة ضغوط أقوى على النظام، خاصة خلال الفترة التي تلت نشوب الثورات العربية في مصر وتونس في بداية عام 2011، على نحو دفع الأخير إلى فرض الإقامة الجبرية عليهما منذ فبراير 2011 وحتى الآن.
لكن هذه الإجراءات لا يبدو أنها ستنجح في تقليص الضغوط التي تفرضها الاحتجاجات الحالية، أو احتواء تأثير رسائل الإنذار التي وجهها المحتجون من خلالها، خاصة أن النظام سبق أن استخدمها في مواجهة الاحتجاجات السابقة ولم ينجح في إخمادها بدليل اندلاعها من جديد في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بما يوحي بأن ما يحدث في إيران هو عبارة عن مواجهة طويلة الأمد بين الشارع والنظام الحاكم في إيران، الذي دفع كلفة لا تبدو هينة بسبب استناده لتلك الإجراءات، يأتي في مقدمته انتهاء "القدسية" التي كان يحظى بها موقع المرشد الأعلى للجمهورية، بعد أن بات شعار "مرگ بر ديكتاتور" أو "الموت للديكتاتور" هو العنوان الأبرز لتلك الاحتجاجات، وبعد أن صار حرق صور خامنئي هو أهم رسائل المحتجين إلى الولي الفقيه.