فاجأت إسرائيل المنطقة والعالم بتغييرات جوهرية في إدارة سياستها تجاه إيران وأذرعها في الإقليم، ففي أسابيع قليلة قامت بتصفية معظم القيادات العليا في «حزب الله» اللبناني وبعض القيادات في الحرس الثوري الإيراني من فيلق القدس.
وتوجت هذه النقلة النوعية باغتيال حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، في رسالة قوية، بل عنيفة، بأن "قواعد الاشتباك" المستقرة بينها وبين "المنظومة الإيرانية" منذ فترة طويلة قد انتهت ولم تعد قائمة.
وقد ظهرت بوادر ذلك التغيير الجذري خلال الأشهر العشرة التي مرت منذ بدء إسرائيل حربها على قطاع غزة إثر هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، فرفعت درجة ونطاق الاشتباكات المسلحة والمستوى التدميري للعمليات العسكرية الموجهة تحديداً إلى "حزب الله اللبناني"، بعد أن اختبرت ردود فعل الحزب ومن ورائه إيران الداعم الأول لها أكثر من مرة.
لا شك في أن المزاج السياسي الإسرائيلي قد استقرأ تلك الدلالات في سلوك حزب الله وخطاب أمينه الراحل، ولعله خرج بنتيجة واضحة مفادها أن الحزب لن ينوي خوض مواجهة شاملة مع إسرائيل، وحريص على تجنبها، حتى إن اضطر إلى تغيير بعض قواعد الاشتباك المستقرة بين الجانبين منذ أعوام عدة.
إسرائيل حالياً على وشك إشعال تلك الحرب التي يحاول الجميع تجنبها، فالتخلي عن قواعد الاشتباك القديمة والتحول إلى تصفية القيادات العليا في حزب الله مؤشر قوي ومباشر إلى أن الهدف ليس بث رسائل محددة أو توجيه إنذارات ما لأذرع إيران أو حتى لطهران ذاتها.
فقد بات واضحاً أن الهدف هو إجبار "المنظومة الإيرانية" كلها أي إيران وأذرعها وحلفائها وأدواتها الإقليمية، على الانصياع وقبول التخلي عن تهديد إسرائيل بأي شكل وعبر أي وسيلة أو من خلال أي طرف، وإلا فإن البديل هو تدمير كل ما يمكن تدميره من مصالح وأهداف وشبكات وكيانات وأشخاص تابعين أو موالين لطهران. وهو ما يعني بالطبع «تكسير عظام» بالنسبة لإيران وليس فقط عض الأصابع أو تهذيب الأطراف.
جاء اغتيال حسن نصر الله في توقيت شديد الذكاء من جانب تل أبيب، لأنه سبق إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأسابيع. وهو ما يعني عجزاً أمريكياً كاملاً عن القيام بأي تحرك ضد تعريض حكومة بنيامين نتنياهو المنطقة كلها لخطر حرب شاملة، والتزام الصمت أو على الأكثر تبني خطاب عام بلا مضمون، حول ضرورة التهدئة والعقلانية من جانب كل الأطراف.
وتتضح دلالة اختيار هذا التوقيت الحرج، بالنظر إلى ما كان سيحدث لو قامت إسرائيل باغتيال نصر الله في توقيت آخر. ففي الأسابيع أو الأشهر الماضية لم تكن إدارة جو بايدن ستسمح لنتنياهو بهذه الخطوة التي أخطر واشنطن بها مسبقاً بالطبع.
وبعد إجراء الانتخابات الأمريكية فإن أي خطوة خطيرة من هذا النوع تعني وضع العربة أمام الحصان وخلق مشكلة إقليمية خطيرة وقنبلة موقوتة أمام الرئيس الوافد إلى البيت الأبيض، وبالتالي تفجير خلاف ثنائي ووضع العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في مأزق مبكر مع ذلك الرئيس المنتظر، سواءً كان دونالد ترامب أم كامالا هاريس.
ولا يعني هذا أن واشنطن معفية من المسؤولية عما جرى وربما سيجري في المنطقة، فقد كان بإمكان إدارة بايدن ممارسة ضغط فعال على تل أبيب منذ شهور لتحجيم الجموح الإسرائيلي في غزة، الذي تحول سريعاً إلى وحشية وإبادة جماعية. ولو قام بايدن بذلك لما تجرأت تل أبيب على التصعيد الخطير مع "حزب الله" اللبناني.
ما جرى في الأيام الماضية خطير بما يكفي لفتح توقعات المستقبل على كافة الاحتمالات على دول المنطقة وكذلك القوى الكبرى في العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي فإن سرعة التحرك عملياً وليس كلامياً لتطويق تداعيات ذلك التوجه، ومنع تل أبيب من المضي قدماً في خياراتها التي تراهن فيه على ضعف خصومها أو حرصهم على تجنب مواجهة خاسرة معها، تتجه إلى تدميرهم نهائياً وهو المطلوب حالياً، لذلك فعند لحظة الاختيار بين البقاء أو الفناء فإن الحلول الانتحارية تكون هي المتوقعة، والاحتمال الوحيد لعدم انفجار المنطقة هو تحلّي إيران بالحكمة الشديدة و"الصبر الاستراتيجي" العميق، وانتظار من سيسكن إلى البيت الأبيض قريباً، وهو أمر ليس ببعيد عن العقل الاستراتيجي الإيراني، خصوصاً بعد سلسلة الانتكاسات والانكشافات التي تعرضت لها طهران، ومن حولها المنظومة الموالية لها في الإقليم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة