ثورة الخميني كانت نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي الفارسي، انقطعت معها تقاليد الحكم الفارسي بكل ما تعنيه من حكمة وبعد نظر
من يطالع الكتابات السياسية للعرب والمسلمين منذ ظهور الإسلام، وحتى بداية التواصل الفكري مع الحضارة الغربية بعد الحملة الفرنسية؛ يجد حضوراً طاغياً للحكمة الفارسية، ولمفاهيم العدل والشورى عند حكام فارس، حيث يبرز كسرى أنو شروان الحاكم الفارسي قبل الإسلام رمزاً حقيقياً للحكمة السياسية، إلى الحد أنه ظهر من بين المترجمين العرب في القرن الثالث الهجري من ينقل تراث اليونان إلى العربية؛ ليثبت أن اليونان لديهم من الحكمة السياسية ما لا يقل عما لدى الفرس، وقد يتميز عليه.
في ظل هذه الحالة من هيمنة عقلية الحوزة على الدولة توارت المؤسسات، واختفت خلف الأشخاص، فاختفت الدولة الإيرانية خلف المرشد الأعلى، كما اختفى العراق خلف المرجع الأعلى، وتم اختزال المؤسسات في الأشخاص، فتم اختزال فيلق القدس والحرس الثوري في قاسم سليماني
ظلت هذه الحكمة متوارثة في العرش الفارسي؛ بما يحقق مصالح الأمة الفارسية؛ حتى وإن تعارضت تلك المصالح مع جيرانها في بعض الأحيان، ومع نهاية تقاليد الحكم الفارسي بثورة الخميني 1979؛ تراجعت الحكمة الفارسية، وطغت العنصرية الجاهلية، والنزعة القومية المغلفة برقائق من الأغطية الدينية الطائفية الكهنوتية؛ بصورة قد تجعل الفرد يظن أن العمائم سودها وبيضها قد دفنت الحكمة السياسية، واستبدلت بها رؤية شعبوية توظف جهل الشعب لتحقيق المزيد من القوة السياسية، بحيث صار الجهل والتجهيل وسيلة لتعظيم الهيمنة السياسية، وتعميقها لنخبة لا خبرة لها بالعمل السياسي، ولا تاريخ لها في ممارسة الحكم، وإنما جاءت من معازل الكهنوت الديني في صومعات الحوزات العلمية؛ التي تتطلب من المنتمين لها الانعزال للتعمق في القضايا العقيدية والفقهية، وتدفعهم إلى البعد عن السلطة والسياسة؛ انتظارا لعودة الإمام الغائب.
لقد كانت ثورة الخميني نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي الفارسي، انقطعت معها تقاليد الحكم الفارسي بكل ما تعنيه من حكمة وبعد نظر، وممارسة محترفة للعمل السياسي، وبدلا من أن ينقل الخميني وأتباعه حكمة الفرس إلى الحوزة العلمية، ويقدموا للعالم الإسلامي مدرسة في السياسة والحكم تجمع بين مقاصد الشرع، والحكمة المتوارثة للأمة الفارسية، بدلا من تحقيق ذلك، نقل الخميني وأتباعه تقاليد الحوزة العلمية الانعزالية المغلقة الطائفية إلى ديوان الحكم وعرش كسرى، ودفع برجال دين قضوا حياتهم في "دراسة فقه الحيض والنفاس" كما وصفهم الخميني ذاته في مقدمة كتابه "الحكومة الإسلامية"؛ دفع بهم إلى قلب معمعة السلطة السياسية من خلال نظرية "ولاية الفقيه"، التي تجعل الفقيه المجتهد نائبا عن الإمام الغائب في إدارة شؤون البلاد والعباد.
منذ ثورة الخميني إلى اليوم خرجت إيران، تلك الأمة العظيمة، من كونها دولة إلى كونها "حوزة" يتحكم فيها مجموعة من المعممين المتعطشين لكل مغانم الدنيا وكل نعيم الآخرة معاً، فهم دنيويون حتى النخاع، ومقامرون على كسب الجنة بدماء الآخرين وحياتهم ودنياهم، انتقلت إيران من دولة لها تقاليد سياسية راسخة وعميقة، إلى حوزة علمية تحركها أوهام التاريخ وأحقاده وأمراضه، وثاراته المتخيلة، وتتحكم فيها عقول لا تعرف معنى الدولة ولا منطقها، ولا متطلباتها، تخلط بين الدور الديني للمرجعية المذهبية الطائفية، وبين دور قيادة الدولة، وتخلط بين الفقه الجزئي، وبين استراتيجيات إدارة الدول والكيانات الكبيرة، وتخلط بين الدولة والثورة، وبين المذهب والدين، وبين الطائفة والأمة... إلخ.
ومع كل ذلك تقوم بتفليس المجتمع من كل كفاءاته من خلال التحكم في عقول وقلوب الشعب، والتدخل في تقرير كل ما يفعله ثمانون مليون إيراني، وفرض قيود وقواعد وإجراءات بالقوة على المواطنين بصورة خلقت مجتمعاً منافقاً، له حياتان، واحدة في البيت وخلف الأبواب، وأخرى في المجال العام في الشارع والعمل. كذلك قامت الحوزة التي صارت دولة بتوظيف كل القدرات الممكنة لفرض رؤية تاريخية؛ مبنية على خيالات وأوهام على مجتمعات ودول مجاورة من خلال التآمر والعمل الخفي، ومن خلال التدخل المباشر تحت شعارات دينية تتعارض مع حدود حركة الدول.
لقد كان وجود مؤسسات مثل الحرس الثوري وفيلق القدس دليلا واضحا على أن إيران لم تعد دولة؛ وإنما صارت كيانا غريبا هو أقرب للحوزة الكهنوتية الطائفية التي تمتلك جيشا وثروة هائلة، وتفرض رؤيتها الفقهية المذهبية على العالم بمنطق القوة الاقتصادية، والعسكرية، ومن خلال المؤامرة والعمل الخفي.
ولأن إيران صارت حوزة ولم تعد دولة فقد خسرت العديد من قدرات الدولة، ومن كفاءات مؤسساتها، ولم يعد لديها إلا مهارة التآمر، والعمل الخفي، وكل مهارات الكلام والشعارات والخطاب الشعبوي. أما قدرات الدولة الحقيقية القادرة على القيام بوظائفها الداخلية والخارجية فقد ذهبت؛ وحل محلها شعارات دينية تاريخية مذهبية مغرقة في الخيال والأوهام.
في ظل هذه الحالة من هيمنة عقلية الحوزة على الدولة توارت المؤسسات، واختفت خلف الأشخاص، فاختفت الدولة الإيرانية خلف المرشد الأعلى، كما اختفى العراق خلف المرجع الأعلى، وتم اختزال المؤسسات في الأشخاص، فتم اختزال فيلق القدس والحرس الثوري في قاسم سليماني... إلخ.
وحين يبرز الأشخاص، وتتوارى خلفهم المؤسسات؛ فإن نهاية الأشخاص تجعل مستقبل المؤسسات موضع شك كبير، لأنه تم اختزال المؤسسة في الشخص، فمستقبل فيلق القدس والمليشيات المرتبطة به موضع شك كبير بعد مقتل قاسم سليماني، ومستقبل الجمهورية الإسلامية في إيران بعد المرشد الأعلى يصعب توقعه، لأن مصير إيران قد يكون في يد جندي من الحرس الثوري يسقط طائرة ركاب لأنه شعر بالذعر وسيطر على الخوف من صاروخ أمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة