النظام الخميني منذ ركوبه على ظهر الشعب الإيراني وقيادته اتبع كل الأساليب التي من شأنها كسر شوكة ذلك الشعب
يقول العارفون بدهاليز السياسة، كل نظام سياسي يحتاج "تاءين" لقيادة شعبه، الأولى للتجويع والثانية للتجهيل. وثمة نظريات كثيرة تفند نظرية القيادة بالتجويع، تستند إلى بعض الفرضيات المؤلمة، أولها أن الشعوب إن شبعت أصبحت لديها فسحة للتفكير، وإن فكرت عرفت، وإن عرفت تحركت، وإن تحركت غيرت، وهذا هو كابوس أي نظام سياسي.
النظام الخميني منذ ركوبه على ظهر الشعب الإيراني وقيادته اتبع كل الأساليب التي من شأنها كسر شوكة ذلك الشعب والسير به إلى كهف الديكتاتورية المحفوفة بوهم المقدس، والمشفوعة بمبرر عقائدي تم الزج فيه باسم الله والنبي والأئمة، لينتهي بشخص يحمل تفويضا من الله في الأرض وتوكيلا من الإمام الغائب - الخميني، مهندس معمار الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إن "تاء" التجهيل ظلت ركيزة مهمة في نهج الخميني منذ وضع دستور البلاد، مرورا باستدعاء كل النصوص الدينية من مصفوفة الفقه الشيعي، لتؤكد طرحه الذي يقوم على حاكمية شخص واحد "هو نفسه" في مواجهة أمة كاملة. لقد اتبع ما يمكن تسميته "الجهل المقدس" جهل يتماهى مع صكوك الغفران والحكم الإلهي في عصر الظلمات الأوروبي.
قامت نظرية الجهل المقدس الخمينية على عدة روافد، أولها حشر الشعب في خندق المظلومية والمؤامرة، فقد غرس في أذهان الجميع أن العالم كله يريد موتهم، وأن الكل يكرههم ويريد بهم الشر، وضع حائطا من الكره بين الشعب الإيراني وبين محيطه وجيرانه انطلاقا من أن قومية جيرانهم عرب ومذهبهم سني، فنشر الكره على أساس قومي والكره على أساس طائفي. أما الحائط الأكبر من منظومة الكره الخومينية فكانت عالمية، المظلومية الكبرى وشيطنة العالم، وأن الكل يريد بشعب إيران الشر .
الشعب الإيراني هذه المرة لا يثور رفضا للغلاء ولا للبطالة والفقر، هذا جزء قليل من أسباب الثورة، لكن السبب الأهم أنه يثور على نفسه، يثور ليكسر طوقا من الجهل المقدس. يثور ليحرر عقله قبل أن يحرر قوت يومه
وانطلاقا من فلسفة حكم الخميني نستطيع بسهولة فهم حجج خامنئي وهو يرد على المظاهرات الأخيرة في شوارع ومدن إيران قاطبة فهو دائما يقول: قوى الشر تريد أن تتربص بكم.. المنافقون في إشارة إلى مجاهدي خلق، والشيطان الأكبر في إشارة إلى أمريكا، والعملاء في إشارة إلى دول الجوار.
خامنئي ونظامه يعرفون جيدا أن نظرية المؤامرة تليق بهم، نظرية تتربى وتكبر وتترعرع في الأنظمة الديكتاتورية، الفاشية، الفاشلة، لأنها ببساطة تكون بمثابة شماعة يعلق عليها النظام فشله تحت ذريعة إنما الشر من عند أعدائنا والفشل مجبرون عليه.
وهذا النظام عبر منظومته الفقهية جعل الشعب يقتات عليها منذ نعومة أظفاره، من هنا علينا الإشارة إلى جانب آخر شديد الأهمية في تلك المظاهرات التي خرجت لأسباب واضحة وصريحة، لقمة العيش والغلاء وارتفاع الأسعار، تلك الثورة هي ثورة على المعتقدات الخاطئة التي تم إطعامها للشعب.
الشعب يخرج ليقول تسقط نظرية المؤامرة، فالفشل لا الفشل يعود إلى أعدائنا بل إلى من يحكموننا، فهم الذين أوصلونا إلى قمة الفشل والجوع، الشعب خرج ليحمل النظام مسؤولية التراجع وكل التخلف. الشعب خرج ليعلن للنظام الخميني الخامنئي أن سياسة التجويع كوسيلة للحكم السهل ما عادت تنفع، فالتجويع ليس بالضرورة يؤدي إلى الانصياع بل سيؤدي حتما إلى الثورة.
الشارع والشارع المضاد
إذا خرج الشرع ضدنا فهو خائن وعميل ومنافق وينقاد من قوى الشر العالمية، وإذا خرج الشارع معنا فهو نقي وطاهر ومبارك. تلك هي القاعدة الخمينية في الحكم على الشارع، هذا الذي نراه الآن، شيطنة الثورة الإيرانية، وتخوين الشارع، رغم أن خامنئي نفسه وفصيله من المتشددين استخدموا الشارع مرارا وتكرارا في اللعب مع خصومهم في الداخل والخارج.
لعلنا نذكر كم مرة تم استخدام الشارع للهجوم على سفارات دول أجنبية في الداخل الإيراني، نذكر السفارة السعودية وما حدث فيها 1987 و2016، والسفارة الإنجليزية واقتحامها ونهبها في 2011، وأيضا ما حدث في 2017 - 2018 حين استخدموا الشارع في الداخل، تلك الثورة الإيرانية التي اندلعت في ديسمبر/كانون الأول من 2017 في مدينة مشهد، لتندد بسياسات حكومة حسن روحاني، ثورة تنطلق من "مشهد" المدينة الدينية المقدسة، التي يسكنها الملالي ويقوم اقتصادها على الزوار الذين يحجون إليها من كل صوب لزيارة قبر الإمام الرضا.
خرجت تلك المظاهرات من مشهد لتجتاح بقية المدن الكبرى في إيران رافعة شعار "لا للغلاء"، برر البعض سرعة انتشارها بمكان انطلاقها، مدينة "مشهد" إحدى أهم المدن الدينية التي تسكنها الموالاة الدينية والموالاة الاقتصادية، ثم بعد مشهد مدينة "قم" المدينة الدينية الثانية التي بها الحوزة الأشهر.
الشارع فسر ذلك على أنه ضوء أخضر من النظام. والحقيقة التي تكشفت بعد ذلك أنها فعلا كانت بضوء أخضر من خامنئي ومن الحرس الثوري ضد حسن روحاني شخصيا. لقد أثبتت ذلك تصريحات خامنئي نفسه التي طالب فيها بالدفع ناحية ضرورة إجراء إصلاحات في حكومة روحاني، وفهم أيضا ذلك من موقف علماء الدين الموالين للنظام الذين انتقدوا حكومة روحاني وسياساتها الاقتصادية.
لكن دائما حسابات "الأنظمة الديكتاتورية" تكون خاطئة، فلم يستمر الشارع مواليا لهم ومعارضا لروحاني، بل انقلب عليهم هم أكثر ما انقلب على روحاني، وتحولت شعارات الثورة من مجرد الهتاف ضد الغلاء إلى حزمة الهتافات التي تفضح سياسات خامنئي التي تقوم على نهب ثروات إيران لاستخدامها في إثارة القلاقل في دول الجوار، وهو نفس المصطلح الذي استخدمه رفسنجاني، واستخدمه خاتمي حين قالا: "لو يتوقف النظام الإيراني عن إثارة القلاقل في دول الجوار لتم دمج إيران في محيطها العربي والإقليمي".
عندما تنوعت الهتافات "لا غزة ولا لبنان؛ اتركوا سوريا وانظروا لنا"، تغير عندها تكتيك النظام والحرس الثوري، وبدأت سياسة شارع مقابل شارع، شارع موالٍ مقابل شارع معارض،
في الثالث من يناير/كانون الثاني 2018، أي بعد أقل من شهر على اندلاع الثورة في مشهد تم إخراج مسيرات موالية تهتف باسم الثورة الخمينية، وضد الخونة العملاء، وخرجت منظومة المراجع الجاهزة للتحذير من الخونة، والمنظومة الإعلامية تكيل الاتهام إلى دول الجوار والمنظومة العالمية.
مما سبق يتضح ما أود التأكيد عليه هو أن ثمة متغيرا جديدا لم يكن موجودا من قبل في تلك المظاهرات التي حدثت في إيران بدءا من 2009 مرورا بـ2017-2018، وهو أن المواطن الإيراني نفسه قد تغير وهذا هو الأهم، الترس الأول في تركيبة أي دولة هو المواطن، الفرد، الإنسان، هو الهدف الذي من أجله تقام الدول، وتنشأ المؤسسات، ويأتي الحكام، هذا المواطن هو المعادلة الفاصلة في شكل أي حكم أو سياسته، هو الذي يقبل بدولة ديكتاتورية فيصبح هناك نظام ديكتاتوري، وهو الذي يرفض فتتغير الأنظمة.
هذا المواطن الذي اشتغل عليه الخميني منذ بداية التأسيس لنظامه عبر سياسة التجويع والتجهيل، فنجح لفترة ثم ها هو الآن يثور. هذا المواطن الإيراني الذي تم تغييبه وتجهيله وتعميته ليرضى بأن يضحي بقوته من أجل أن يتم إخراج ميزانية إيران لتصدر القتل في العراق تحت مظلة أذنابها. وتصدره أيضا إلى لبنان تحت مظلة حزب الله.
الشعب الإيراني هذه المرة لا يثور رفضا للغلاء ولا للبطالة والفقر، هذا جزء قليل من أسباب الثورة، لكن السبب الأهم أنه يثور على نفسه، يثور ليكسر طوقا من الجهل المقدس. يثور ليحرر عقله قبل أن يحرر قوت يومه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة