التصعيد الحالي بين إسرائيل وإيران، لا يتكرر كثيراً، سواء على مستوى مظاهره التي وصلت إلى قصف متبادل بالصواريخ، أو على مستوى التعامل والإدارة من كلا الجانبين.
هنا تظهر أهمية قراءة التطورات الأخيرة والدلالات التي تحملها. فبعد شهور من التحرش الإسرائيلي بإيران ووكلائها الإقليميين، نجحت تل أبيب في إجبار طهران على مبادلتها التراشق العسكري بشكل مباشر وليس عبر وكلاء كما كان يحصل.
غير أن تمادي إسرائيل في التصعيد، وضع إيران في مأزق الاختيار بين الرد بالمثل وبالتالي احتمالات توسيع نطاق المواجهة والدخول في حرب شبه شاملة ربما لا تقتصر على إسرائيل وحدها أو التغاضي عن ممارسات تل أبيب وتفويت الفرصة عليها، وهو ما يعني تراجع الدور والمكانة الإقليمية لطهران.
الجديد والمهم الذي حملته الأيام الماضية، أن إيران بدأت تتحرك على المستوى الإقليمي العربي، وتجري اتصالات مكثفة مع عدد من الدول، بما فيها تلك التي لم تكن العلاقة معها وثيقة، بل ربما غير جيدة في أغلب الأوقات. وفي هذا التحول دلالة كبيرة لجهة رؤية إيران لوضعها في الإقليم وكذلك لوزنها مقارنة ببقية دول المنطقة، في سياق موازين القوى التي تشهد اختلالات واهتزازات قوية وتغيرات مؤخراً.
ومن بين أهم المؤشرات في هذا الاتجاه، تلك الجولة التي قام بها عباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني قبل أيام، والتي شملت تسع دول في بضعة أيام فقط وهذه الدول على التوالي هي: لبنان، وسوريا، والعراق، وقطر، والسعودية، وعُمان، ومصر، والأردن، وتركيا. وهي حزمة متنوعة من الدول بعضها على علاقة وثيقة وقوية بطهران مثل العراق وسوريا ولبنان وسلطنة عمان. أما البعض الآخر فكانت لها خصوصية في الظرف الراهن، فالموقع الجغرافي لكل من الأردن والسعودية، يجعل للمجال الجوي بالدولتين أهمية عالية في أي مواجهة عسكرية بين تل أبيب وطهران.
وبالنسبة لمصر، فإن زيارة عراقجي إلى القاهرة هي الأولى لمسؤول إيراني رفيع بهذا المستوى منذ أحد عشر عاماً، وهي إشارة أخرى لها دلالة مهمة في هذه الجولة.
جولة عراقجي لدول المنطقة تركزت حول مسألتين؛ هما المسألة الأولى: طمأنة دول المنطقة بشأن موقف إيران بعدم المبادرة إلى التصعيد. والمسألة الثانية: توصيل رسائل محددة حول تعاطي طهران مع مواقف دول المنطقة من أي ضربة إسرائيلية محتملة، وهي بالنسبة لنا مسائل مرحلية ومؤقتة نظراً لمعرفتنا بالنظام الإيراني عندما يتعرض إلى ضغط دولي كما يحدث الآن.
وبالتالي فإن النقطة الجديرة بالاهتمام حقاً بالنسبة لوضع إيران في الشرق الأوسط وعلاقاتها مع دول المنطقة، ليس هذا الانفتاح أو التودد الإيراني للدول العربية، وإنما الأهم هو الاقتناع بحقيقة نوايا طهران ومدى المصداقية في هذا الوجه الإيجابي الذي تحاول تصديره إلى تلك الدول.
الاختبار الحقيقي أو المحك في هذا السلوك الجديد والممارسات التي تقوم بها إيران على المستوى الإقليمي. فإذا كانت إيران صادقة فيما تعلنه من نوايا وتبعثه من رسائل إيجابية تجاه الدول العربية، عليها القيام بتغيير جذري في تحركاتها الإقليمية وتوجهاتها الخارجية بشكل عام. وذلك بتفكيك «شبكة وكلائها» الإقليميين والأذرع التي تعمل لحسابها في قضايا ودول عربية، وتحديداً في فلسطين، والعراق، ولبنان، واليمن.
لقد أثبتت الوقائع والبراهين على الفترات السابقة خطورة هذه الشبكة ليس فقط بتعطيل سبل الحلول السياسية وتسوية الأزمات، بل أيضاً بالتسبب في تهديد مباشر لاستقرار وأمن المنطقة. وإن كانت طهران غير معنية باستقرار دول المنطقة وتنمية شعوبها، فإن الانعكاسات السلبية لتلك التوجهات والممارسات الإيرانية، بدأت ترتد عليها بصورة ربما لا تتحملها أوضاع الشعب الإيراني الصعبة أساساً. بل قد لا تستطيع النخبة الحاكمة في إيران مواجهتها أو تحمُّل مسؤوليتها.
ونظراً إلى حساسية الفترة الزمنية الحالية على المستوى العالمي، حيث تُجرى الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد أيام، وتستغل إسرائيل هذه الحساسية في الاندفاع بكل قوة نحو تحقيق أهداف عسكرية وسياسية على جبهات متعددة، ولم تعد إيران تملك إخفاء ضعفها وخشيتها من ذلك الاندفاع الإسرائيلي. فإن صدق الخطاب السياسي الإيراني وحقيقة ما تظهره من وجه إيجابي تعاوني تجاه دول المنطقة، مرهون بأن يتم التغيير المطلوب في سياساتها الفعلية، بشكل عاجل وسريع، أي خلال تلك الفترة الزمنية الحرجة وليس بعدها.
إن أي تأجيل أو مماطلة في طمأنة دول المنطقة بتغيير التوجه الإيراني، لا يعني سوى تمرير للوقت حتى تهدأ موجة الاندفاع الإسرائيلي، ويدخل الرئيس الأمريكي المقبل إلى البيت الأبيض، لتعيد طهران ترتيب أوراقها بدون تغيير أو تحول حقيقي في سياساتها. الأفعال هي دليل إثبات الخطاب، وفي وقتها المناسب وليس بعد فوات الأوان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة