النظام في إيران خفف من لهجته التصعيدية؛ لأن إمكاناته لا تسمح له بذلك، ولكن هناك أسبابا أخرى جعلته يتراجع عن القنابل الصوتية وحرب الكلمات.
بعد كثير من الصياح والعويل، وكثير من القنابل الصوتية، وبعد سبعة عشر يوما من بدء سريان العقوبات القاسية، التي أعادت الولايات المتحدة فرضها على إيران.. لم يتغير شيء، ولم تحدث المفاجأة التي تحدث عنها الإيرانيون كثيرا؛ فلقد تقبلت إيران صاغرة تلك العقوبات، وهي التي قال عنها أمس مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إنها أكثر فاعلية مما كان متوقعا، وإن تأثيرها «كبير بالفعل على اقتصاد إيران وعلى الرأي العام داخل إيران».
ثبت أن كل تهديدات النظام الإيراني بعرقلة تدفق النفط من المنطقة لم تكن سوى تكرار لما فعله سابقا عشرات المرات.. لم ينفذ أيا منها، وانصاع للعقوبات سريعا دون ظهور رد فعل واحد. جعجع النظام كثيرا ثم استسلم للعقوبات، معولا على انتظار تغيير مقبل للإدارة الأمريكية في 2020
هدّد النظام وأزبد وأرعد، ولكنه وبأسرع مما توقع أشد أصدقائه أن يتقبلها، وينقلب على كل تلك الخطابات التصعيدية التي بلغت درجة التهديد بإيقاف شحنات النفط من الخليج العربي، وهو ما يعني الدخول في مواجهة عسكرية. وبعيدا عن أن النظام في طهران أعجز من أن يواجه حربا من هذا النوع، فإن مرشد الثورة الإيراني بنفسه، في خطابه الأخير، عاد عن تلك اللغة التهديدية، ووجه رسالة واضحة بأن أقصى ما ستفعله بلاده ردا على العقوبات الأمريكية هو عدم التفاوض فقط، كاشفا عن أن كل تصريحات مسؤوليه كانت لذر الرماد في العيون، مؤكدا: «لن تكون هناك حرب.. هذه هي خلاصة الكلام الذي ينبغي أن يعرفه الشعب الإيراني كله: لن تحدث حرب»، علما بأن استراتيجية الإدارة الأمريكية كانت ولا تزال تركز على الضغوط الاقتصادية بدلا من الخطوات العسكرية، ولم يهدد أحد أو يلوح بحرب، فأين كل تلك التهديدات التي خرج بها النظام الإيراني بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعلان موعد العقوبات؟! الحقيقة لم تكن سوى رضوخ إيراني مبكر للعقوبات، واعتراف بأن تلك اللغة التصعيدية لم تكن سوى مساعٍ لجلب أقصى قدر ممكن من التعاطف الأوروبي من جهة؛ ولتشتيت الانتباه عن الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تتعرض لها طهران من جهة أخرى.
بعد نحو أسبوعين؛ ها هي إيران تعاني سريعا مع انسحاب شركات كبرى من قطاعات الطاقة والسيارات والشحن، أمثال «توتال» و«بيجو» و«ميرسك»، وكذلك مجموعة من المصارف الدولية، كما البنك الألماني «دويتشه بنك»؛ فالبنوك والشركات متعددة الجنسية ستتصرف بما يخدم مصالحها لا بما تمليه عليها حكوماتها، وعندما تطبّق الإدارة الأمريكية المرحلة الثانية من العقوبات في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإن تلك العقوبات تقتضي من الدول الشريكة مع إيران خفض مشترياتها النفطية منها، أو المخاطرة بعدم القدرة على ممارسة أعمال تجارية مع الولايات المتحدة، وهي مرحلة بالغة التعقيد على الاقتصاد الإيراني، وستظهر تبعاتها على الشارع الإيراني المغلوب على أمره. وللتذكير فإنه حتى قبل إعادة فرض المرحلة الأولى من العقوبات في 6 أغسطس (آب) الحالي، فإن العملة الإيرانية خسرت نصف قيمتها خلال 4 أشهر فقط، أي أن قيمة الودائع في المصارف الإيرانية أصبحت تساوي نصف ما كانت عليه في شهر أبريل (نيسان) الماضي، فكيف ستكون الحال بعد تطبيق العقوبات المقبلة؟!
صحيح أن النظام في إيران خفف من لهجته التصعيدية؛ لأن إمكاناته لا تسمح له بذلك، ولكن هناك أسبابا أخرى جعلته يتراجع عن القنابل الصوتية وحرب الكلمات التي اعتاد عليها، فلا يخفى على النظام أن مواطنيه في استياء متصاعد من تأثير المعارك الإيرانية في الخارج على معيشتهم في البلاد. واستخدام مثل هذه اللغة سيزيد من الضغط الداخلي على الحكومة الإيرانية، خصوصا مع صعوبة الأوضاع المعيشية بشكل لا يطاق على المواطنين الإيرانيين.
في النهاية؛ ثبت أن كل تهديدات النظام الإيراني بعرقلة تدفق النفط من المنطقة لم تكن سوى تكرار لما فعله سابقا عشرات المرات.. لم ينفذ أيا منها، وانصاع للعقوبات سريعا دون ظهور رد فعل واحد. جعجع النظام كثيرا ثم استسلم للعقوبات، معولا على انتظار تغيير مقبل للإدارة الأمريكية في 2020؛ لعل وعسى يستطيع التفاوض مجددا على اتفاق نووي جديد. ويصعب على الاقتصاد الإيراني تحمل عقوبات مشددة لثلاث سنوات مقبلة.. على الأقل.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة