تختار القيادة الإيرانية دوما الحلول الصعبة في التعامل مع الأزمات التي تواجهها. أو ربما من الأفضل وصفها بالحلول العنيفة أو الصدامية.
سواء كانت المشكلات داخلية أو خارجية، تشعر أن قادة إيران يستبعدون عن الطاولة جميع الخيارات الوسطية والحلول السلمية، وينزحون نحو العنف والأدوات الملطخة بالدم. يقود هذا الطريق إلى خمود الأزمة لفترة من الزمن، ولكنه لا يعالج مشكلة من جذورها، كما لا يحسن صورة القيادة في أعين الشعب أو العالم.
كان يمكن أن يبقى مقتل مهسا أميني في إطار جريمة ارتكبها أفراد هيئة حكومية، ويعاقب عليها المذنبون. كان يمكن أيضا أن تعيد الحكومة النظر في قوانين ارتداء الحجاب، أو في الطرق التي يجب أن تتعامل معها "شرطة الأخلاق" في البلاد. وكل إصلاح في هذا السياق يقود حتما لاحتواء الأزمة ومنع تفجرها واتساعها.
ما حصل أن القيادة الإيرانية مثل كل مرة، اختارت العنف والقوة للرد على التظلم الشعبي. لسان حالها يقول إن الدولة لا تخطئ، وأفرادها لا يرتكبون الزلات، بل أنهم منزهون عنها. ولكن هذا الادعاء لا يقنع أحدا في القرن الحادي والعشرين. ومؤسسات الدولة تعمل لخدمة الشعب ولا تفصل على مقاس أفراد أو فئة أو حزب.
تحولُ مقتل أميني إلى ثورة شعبية لا يستند فقط على جريمة قتل الشابة. وإنما يستحضر عقودا من الظلم والاضطهاد التي يعاني منها الإيرانيون. هذا الظلم الذي يتفجر احتجاجات كل بضع سنوات، فتقعمه الحكومة بالقوة ليهدأ ثم يشتعل من جديد عبر شرارة كمأساة أميني أو وقوع مشكلة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
حجة اليد الأجنبية الخفية وراء غضب الناس واحتجاجهم، تستدعيها القيادة الإيرانية فورا لمواجهة الشارع الناقم على سلوكها الداخلي أو الخارجي. وهذه الحجة سقطت منذ زمن طويل ليس فقط لأنها باتت رثة ومكشوفة، وإنما أيضا لأنها تتجاهل انفتاح العالم إعلاميا، وتعاطف الشعوب مع بعضها البعض في الأزمات.
كل شيء حول القيادة الإيرانية يتغير مع الزمن، ولكنه لا يؤثر على الذهنية التي تحكم فيها الداخل وتحاور فيها الخارج منذ 1979. منطق "الثورة الإسلامية" ينادي بمواجهة الشعب بالحديد والنار. أما الجوار فيجب أن يعامل بالمؤامرات والتهديد. وفي السياسة الدولية فليس هناك أفضل من امتلاك سلاح نووي لابتزاز العالم.
السؤال هو ماذا أفرزت ثوابت السياسة الداخلية لـ "الثورة الإسلامية"؟ والإجابة هي شعب بائس يشعر بالظلم، وقيادة خائفة ليل نهار، من تمرد هنا واحتجاج هناك. أما في السياسة الخارجية، فقد أنتجت "الخمينية" دولة تعيش حصارا اقتصاديا ممتدا لعقود، ولم تعد تعرف لغة سوى السلاح للحوار مع الجوار ودول العالم.
الإنجازات "العظيمة" التي تفخر بها القيادة الإيرانية هي أذرعها التي تعيث فسادا في بعض دول المنطقة، ومنظمات الجريمة والمخدرات التي ترعاها ميليشيات تخدم طهران، إضافة إلى اللهاث من أجل إنتاج القنبلة النووية، وتصنيع صواريخ تهدد الملاحة الدولية، واختراع مسيرات تؤجج حروب مشتعلة في قارات أخرى.
خلال العقود الأربعة الماضية لم تفاضل القيادة الإيرانية يوما بين الحرب والسلام. ولا حتى في عام 2015 عندما وقعت على اتفاق لوزان النووي مع الدول الكبرى. فذلك الاتفاق كان عبارة عن مكافأة أمريكية لطهران على سنوات من السلوك العدواني في المنطقة، في مقابل توقفها عن صنع القنبلة النووية لفترة من الزمن.
في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أرادت الولايات المتحدة إطلاق يد الإسلام السياسي في المنطقة، فدعمت "ابناء الخميني" و"أحفاد حسن البنا". وبالتالي لم يكن توقيع إيران على اتفاق لوزان بغرض تحقيق السلام في الشرق الأوسط. وإنما لفتح خزائن الغرب أمام مشاريع طهران التوسعية على أرض العرب.
الخطأ ذاته كان يمكن لإدارة الرئيس جو بايدن أن ترتكبه في عام 2022، لولا أن السياسة الدولية قد تغيرت. فدول المنطقة أصبحت أكثر خبرة في التعامل مع التهديدات الخارجية. كما أن الخطر الإيراني وصل إلى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا على ظهر المسيرات التي قصفت مدناً ومناطق أوكرانية دعما للروس.
عوامل عدة جعلت الغرب يعيد النظر في علاقته مع إيران مؤخرا. ومن بينها الاحتجاجات الشعبية المستمرة في العاصمة طهران ومدن أخرى منذ أشهر. فذلك العنف الذي تمارسه السلطات لقمع الاحتجاجات أثار حفيظة الداخل والخارج، حتى أن أفرادا من النظام ذاته باتوا يطالبون بالاستماع إلى أصوات المحتجين.
سلطات طهران اعتقلت حتى ابنة شقيقة علي خامنئي. اقتادت فريدة مرادخاني للسجن بعد تسجيلها شريط فيديو تصف فيه تلك السلطات التي يقودها خالها، بـ "النظام المجرم وقاتل الأطفال". والجرائم التي ارتكبت بحق المحتجين، دفعت بأمريكا ودول أوروبا إلى فرض عقوبات على عشرات الأفراد والكيانات الإيرانية.
النكران هو السلوك الوحيد الذي لا زالت تمارسه القيادة الإيرانية حتى الآن. نكران الحاجة إلى الإنصات للشعب، ونكران الحاجة إلى إصلاح السياسات الداخلية والخارجية. كل شيء يحدث في البلاد بأعين القيادة، هو "مؤامرة" من أعداء الدولة، وتدخل أجنبي في شؤونها. أما الحل فيتمثل بقتل واعتقال المحتجين من جهة، وقصف دول مجاورة تصدر "الإرهاب" و"المخربين" إلى داخل إيران، من جهة أخرى.
المشكلة تكمن في أن قادة إيران يظنون أنهم في كل مرة يخمدون فيها الاحتجاجات يزدادون قوة. فتكون المفاضلة في المرة التالية بين العنف كوصفة "مجربة" لقمع المعارضين وبين الاستماع لمطالب الناس. وكلما غلبت الكفة لصالح القتل والاعتقال، تعقدت أزمة السلطة وتعمق سخط الشعب وإصراره على رفضها.
لقد حان الوقت لمفاضلة من نوع مختلف في إيران وإزاء إيران أيضا. في الداخل بات على السلطة أن ترى الحراك الشعبي في سياق رفض عام لسلوك خاطئ مارسته على امتداد عقود. وفي الخارج بات لزاما على العالم إدراك أن القيادة الإيرانية لا تسعى إلى السلام في المنطقة، وإنما تحلم بالهيمنة وتوسيع نفوذها على حساب الجميع. والخير في تذكر الغرب لمقولة رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ بريطانيا ونستون تشرشل: "الغباء هو أن تجرب ذات الشيء مرتين وتنتظر ذات النتيجة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة