هذه العقوبات أعادت أجواء العلاقات الإيرانية-الأمريكية إلى مرحلة احتلال السفارة الأمريكية في طهران.
لا حديث لمعظم الدوائر السياسية الإقليمية والدولية في الأيام الأخيرة سوى عن بدء سريان العقوبات الأمريكية ضد إيران، والتي تعتبرها إدارة الرئيس ترامب "الأشد على الإطلاق"، حيث أعادت منذ يوم الإثنين الماضي تفعيل كل العقوبات التي رُفعت بموجب الاتفاق النووي، والتي تستهدف إيران والدول التي تتعامل معها تجارياً واقتصادياً؛ وتشمل تلك العقوبات صادرات النفط والشحن والمصارف وكل القطاعات الأساسية في الاقتصاد الإيراني.
الآن وقد وقعت إيران تحت طائلة العقوبات الأمريكية الأقسى مجدداً، يصبح التساؤل البديهي: ما حدود تأثير هذه العقوبات؟ وما السيناريوهات التي يمكن أن تسفر عنها؟ والحقيقة أن الحزمة الأخيرة من العقوبات هي الأشد بالفعل فهي في واقع الحال بمنزلة "أم العقوبات"
هذه العقوبات أعادت أجواء العلاقات الإيرانية-الأمريكية إلى مرحلة احتلال السفارة الأمريكية في طهران، والتي قادت بعد ذلك إلى أربعة عقود من العداء المتبادل، ومن ثم لم يكن غريباً أن يحرك النظام الإيراني أتباعه بالأمس للتظاهر والهتاف مجدداً بشعار "الموت لأمريكا".
أبرز ردود الفعل الإيرانية على سريان العقوبات كان الإعلان عن إجراء مناورات جوية لاستعراض القدرات الدفاعية للبلاد، هكذا يفكر النظام الإيراني، يريد أن يوهم الشعب الإيراني بأن الولايات المتحدة تستهدفه، في تحريف لحقائق واضحة يعرفها الشعب الإيراني جيداً ولم تعد خافية عليه، فالملايين الذين احتشدوا في تظاهرات احتجاجية عارمة طيلة الأشهر الماضية يدركون جيداً أن ثروات وموارد بلادهم موجهة لمصلحة المليشيات والتنظيمات المتطرفة في سوريا واليمن ولبنان والعراق.
النظام الإيراني نظام خارج التاريخ ولا يقدر على استيعاب متغيرات العصر وما يدور من حوله، فهو يعتنق فكراً أيديولوجياً غير قادر على التعايش مع الواقع، وبات قادته أسرى لهذا الفكر، ومن يحيد عنه قيد أنملة يتم عزله وشيطنته في عيون مريدي هذا النظام كما حدث مع كثير من رموز كانت في يوم من الأيام أيقونات وقادة دينيين بارزين في هذا النظام، فهو نظام لا يدين سوى لفرد واحد، ولا ينصت سوى لصوت واحد، ولا يأتمر سوى بأوامر مرشده الأعلى علي خامنئي، الذي اكتسب شرعيته في عيون أتباعه من خلال رفع الشعارات التقليدية التي ورثها إياه الخميني!
الحقيقة أن النظام الإيراني لم يكن بحاجة مطلقاً إلى الدخول مجدداً في دوامة العقوبات الأمريكية القاسية لو احتكم إلى المنطق والعقلانية والتزم بمبادئ القانون الدولي وتصرف كدولة طبيعية مسؤولة في النظام العالمي، ولكنه آثر أن يستجيب لنزعته الاستعمارية التوسعية وقرر توظيف الاتفاق النووي الموقع عام 2015 إلى هدف مغاير تماماً لأهداف القوى الدولية التي ظلت لسنوات تتحاور مع هذا النظام من أجل التوصل إلى صيغة ضامنة للأمن والاستقرار الإقليمي، فإذا به يستخدم هذا الاتفاق مظلة للتوسع في برنامج صاروخي باليستي، مستغلاً ثغرة في الاتفاق النووي، الذي لم يتطرق إلى القدرات الصاروخية التي تمتلكها إيران، ومعتقداً أن الاتفاق يعني في وجهه الآخر إطلاق يد الحرس الثوري الإيراني في التوغل والتغول على أمن دول الجوار وقضم أراضي الغير من دون أدنى اعتبار للقانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة وميثاقها.
ولكن لأن هذا النظام يتحرك وفقاً لمصلحة أيديولوجيته وليس لمصلحة شعبه، فقد واصل تنفيذ خطة توسعية استعمارية أراد من خلالها إحكام طوق الحصار الاستراتيجي حول دول مجلس التعاون، من سوريا والعراق شمالاً حتى اليمن جنوباً، وقضم بعض أراضي الدول العربية، فعلياً أو فرضياً عبر تمكين عملاء إيران ووكلائها، حتى أنه كان قد وصل إلى مرحلة التباهي علناً باحتلال أربع عواصم عربية ويستعد لاحتلال الخامسة، في سابقة تعود بنا إلى ممارسات الحقب الاستعمارية القديمة، وتنسف تماماً فكرة وجود النظام الدولي القائم على مبدأ السيادة منذ معاهدة وستفاليا عام 1648!
الآن وقد وقعت إيران تحت طائلة العقوبات الأمريكية الأقسى مجدداً، يصبح التساؤل البديهي: ما حدود تأثير هذه العقوبات؟ وما السيناريوهات التي يمكن أن تسفر عنها؟ والحقيقة أن الحزمة الأخيرة من العقوبات هي الأشد بالفعل فهي في واقع الحال بمنزلة "أم العقوبات"، ومن يتشكك في ذلك عليه أن يبحث على شبكة المعلومات عن عدد الشركات العالمية التي تراجعت عن تنفيذ اتفاقات وقعتها مع الجانب الإيراني خشية الوقوع تحت طائلة العقوبات الأمريكية، حيث سيجد أن هناك أكثر من 100 شركة كبرى انسحبت من إيران أو ألغت اتفاقات ثنائية معها بسبب العقوبات.
صادرات النفط الإيرانية انخفضت حتى الآن بنحو مليون برميل يومياً، والأهم أن هناك قطعا وشيكا لإيران عن النظام المالي العالمي، من جانب جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "سويفت"، ومقرها في بروكسل.
صحيح أن هناك موقفا رسميا بريطانيا ـ ألمانيا ـ فرنسيا يعارض العقوبات الأمريكية، كما أن هناك موقفا روسيا صريحا يدعم صادرات النفط الإيرانية، ولكن الإشكالية أن العقوبات الأمريكية لا تقتصر على إيران بل تطال أي شركة أو كيانا أو دولة تتعامل مع إيران، عدا تلك المتضمنة في قرارات وقوائم أمريكية معلنة رسمياً، ما يعني أن الدخول في أي صفقة تجارية مع إيران بات مغامرة غير مضمونة العواقب ويمكن أن يتسبب في انهيار شركات كبرى، ولا سيما أن وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين، قد حذر من أن واشنطن سوف تستهدف "بقوة" أي شركة أو منظمة "تتحايل على عقوباتنا".
الحل ليس في مواصلة رفع الشعارات واستمرار سياسة نشر الفوضى والاضطرابات وتمويل الإرهاب، بل في استماع الملالي لصوت الشعب الإيراني، الذي طالب صراحة بوقف التدخل في سوريا وتوجيه أموال الشعب الإيراني إلى الخدمات والرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل بدلاً من رعاية تنظيمات الإرهاب، فالإيرانيون الذين دشنواً وسم "آسفون على حصار السفارة الأمريكية"، واعتبروا أن أمريكا ليست عدوهم وأن عدوهم هو من أخذهم رهائن داخل بلادهم، هم الصوت الذي ينبغي للنظام الإيراني أن ينصت إليه جيداً قبل أن يجد نفسه خارج الحكم والتاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة