عادت يد الإرهاب لتضرب مجدداً في العراق، مذكرة الجميع بأن هذا الخطر لا يزال هو التهديد الأكبر الذي يواجه هذا البلد العربي الشقيق.
وأن معركة القضاء عليه لا تزال طويلة. فقبل أيام، وتحديداً يوم الخميس الماضي، شهدت ساحة الطيران وسط بغداد هجوماً انتحارياً مزدوجاً نفذه داعشيان، أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى والمصابين، ووصف بأنه الأكبر منذ ثلاث سنوات، وأعاد إلى أذهان العراقيين رعب التفجيرات الانتحارية التي حصدت أرواح عشرات آلاف الأبرياء منذ عام 2003.
الخطير في هذه العمليات الانتحارية الجديدة ليس عدد الضحايا الكبير فقط "32 قتيلا وأكثر من 100 مصاب"، ولا الأسلوب الدنيء الذي تمت به والذي استهدف تجمعات من المدنيين البسطاء والباعة الذين يحاولون كسب لقمة العيش في بلد يمر بأسوأ أزمة اقتصادية، وإنما في إصرار تنظيم داعش المدحور على إثبات أنه لا يزال موجوداً، وأن آماله في بقاء دولة الخلافة المزعومة ما زالت قائمة، وأنه يستطيع التسلل إلى قلب العاصمة العراقية لينفذ هجماته ضد المدنيين الأبرياء.
ومع الاعتراف بداية بأن العراق قطع شوطاً كبيراً، بدعم من التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي وإنهاء خلافته المزعومة، فإن معركة العراق مع الإرهاب لا تزال طويلة، ليس فقط بسبب محاولات عناصر داعش المستميتة للعودة إلى خلافته المزعومة، وإنما أيضاً، وهذا هو الأهم في تقديري؛ لأن البيئة الداخلية في العراق لا تزال محفزة لاستقطاب المتطرفين والإرهابيين بسبب حالة عدم الاستقرار الأمني الناجمة عن سطوة المليشيات الطائفية، واستمرار الاستقطابات الطائفية في هذا البلد.
ولا يقلل هذا بطبيعة الحال من أهمية الخطوات التي اتخذتها حكومة مصطفى الكاظمي منذ توليها السلطة لإصلاح الملف الأمني عبر سلسلة تغييرات في البنية الأمنية والعسكرية في البلاد، والقيام بعمليات استباقية ضد تنظيم داعش وفلوله المتبقية في العراق، وهي الجهود التي أثمرت تراجعاً في وتيرة وخطورة العمليات الإرهابية. لكن هذه العملية الإرهابية الأخيرة تشير إلى استمرار وجود خروقات وتجاوزات كبيرة في الملف الأمني، نتيجة خضوع المؤسسة الأمنية لصراعات القوى السياسية وتعدد مصادر القرار في القوى الأمنية، إضافة إلى سطوة المليشيات الطائفية وعدم خضوعها كلية للدولة، وهو أمر اعترف به الكاظمي نفسه قائلاً في تعليقه على هذه العملية الإرهابية: "إن ما حصل هو خرق لا نسمح بتكراره"، مشدداً على ضرورة عدم السماح بخضوع المؤسسة الأمنية لصراعات الأطراف السياسية، أو بتعدد مصادر القرار في القوى الأمنية، وهي تصريحات توضح أن الكاظمي يعرف جيداً مواطن الضعف التي يعاني منها العراق في حربه ضد الإرهاب.
إن معركة العراق ضد الإرهاب يجب أن تبدأ بإصلاح الخلل الداخلي من خلال معالجة الخروقات الأمنية الداخلية، ووضع حد لسطوة المليشيات الطائفية التي تمارس بدورها الكثير من جرائم الإرهاب والتصفية، خدمة لمصالح أحزاب طائفية وقوى إقليمية لا تعنيها مصالح العراق وأمنه واستقراره، وهذه مهمة ليست باليسيرة، ولكن الآمال المعقودة على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لا تزال كبيرة في إنجازها، خاصة أنه رجل ذو خلفية أمنية عريضة، وله تاريخه المشهود في مكافحة الإرهاب داخل العراق.
ومن المؤشرات المشجعة هنا إسراع الكاظمي بإجراء تغييرات أمنية واسعة عقب هذه التفجيرات لإصلاح الخروقات الأمنية التي تحدث عنها، بما في ذلك إقالة ونقل قادة قطاعات أمنية في الشرطة والاستخبارات ومكافحة الإرهاب والعمليات، وإطلاق عملية أمنية كبيرة ضد مسلحي تنظيم داعش تحت عنوان "ثأر الشهداء"، وهو ما يؤكد جدية الرجل في التعامل مع هذا الملف الأمني.
معركة العراق الطويلة ضد الإرهاب تحتاج أيضاً إلى تكاتف وتضامن جميع دول المنطقة والعالم مع العراق وحكومته، لمساعدته ليس فقط في مواجهة فلول تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، وإنما أيضاً على تنفيذ أجندة الحكومة لإنهاء فوضى السلاح وحصره في يد الدولة العراقية، باعتباره الأساس لتحقيق الاستقرار الداخلي الذي يشكل الأساس المهم الذي يمكن من خلاله مواجهة التحديات الأخرى كافة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة