معضلة الانتخابات المبكرة في العراق
العراقيون أمام سيناريوهات ثلاثة يتوقف نجاحها على قدرة القوى السياسية العراقية على إدارة الأزمة الممتدة عن طريق النقاط المكتسبة تدريجيا.
يتسم المشهد العراقي منذ استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، وبعد أن أعلن رئيس الجمهورية برهم صالح عن استعداده للاستقالة ووضعها تحت تصرف البرلمان، بما يمكن أن يطلق عليه "ثورة التوقعات" التي بدأت بمطالب اجتماعية واقتصادية منذ اندلاع المظاهرات مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019.
- برهم صالح.. اصطف مع المحتجين فأربك حسابات إيران بالعراق
- قانون الانتخابات الجديد يثير استياء المتظاهرين العراقيين
كما شهدت تلك الثورة الدعوة إلى تغيير الحكومة وحل مجلس النواب، وصولاً للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة بهدف إحداث تغيير جذري في المنظومة السياسية التي قامت على ركائز المحاصصة الطائفية بين الكتل السياسية المهيمنة على مفاصل النظام السياسي الذي تشكل بعد 2003.
فمنذ ذلك العام عُقدت أربع دورات انتخابية لمجلس النواب أسهمت في تشكيل خمس حكومات متعاقبة كان لها تأثيرها المباشر على أزمات النظام الممتدة وصياغة علاقاته الإقليمية والدولية بعيداً عن الندية واستقلالية القرار الوطني.
ومع تزايد مطالب المحتجين في الساحات والميادين المنتفضة، وفي ظل تأزم المشهد بالعراق، والإصرار على رحيل النخبة الحاكمة في العراق وتغيير أسس المنظومة القائمة، جاءت دعوة المرجعية الدينية آية الله السيستاني بشأن إجراء انتخابات مبكرة، خلال خطبة الجمعة التي ألقاها ممثلة في 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
تلك الدعوة لاقت جدلاً واسع النطاق في داخل العراق وفي محيطه الخارجي، ما بين مؤيد للطرح؛ حيث تبنت قوى الحراك الدعوة مدعومة بتأييد من تحالف "سائرون" الذي يهيمن على الكتل البرلمانية الأكبر داخل البرلمان، أو معارض للفكرة والاكتفاء بتغيير الحكومة الحالية بعد المشاورات بين الكتل السياسية الرئيسية، وهو الاتجاه الذي تتبناه القوى العراقية المدعومة من إيران.
هذا الأمر جعل مستقبل العراق على المحك، لا سيما أن كل تيار أضحى له مبرراته في التمسك برؤيته، وهو ما انعكس على الانقسام المجتمعي وغياب التوافق الوطني حول المسار الأنسب لإدارة الأزمة بعد استقالة رئيس الوزراء وانتهاء المهلة الدستورية لاختيار رئيس وزراء جديد في 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وتكييف الواقع الراهن من قبل بعض أساتذة القانون الدستوري، باعتبار أن العراق لا يشهد فراغاً دستورياً في ظل وجود رئيس وبرلمان وحكومة تصريف أعمال، وإنما يواجه ما وصفوه بـ"الخرق الدستوري".
مسارات متباينة
عقب استقالة رئيس الوزراء العراقي، ووضع الرئيس العراقي استقالته تحت تصرف البرلمان، تباينت الرؤى حول المسار الأنسب لخروج العراق من أزمته المعقدة ما بين تيارين رئيسيين:
1- التيار الأول: الداعي إلى تغيير جذري في بنية النظام السياسي الذي تشكل في عراق ما بعد صدام حسين، بحيث تصبح الانتخابات المبكرة المحطة الأخيرة في مسيرة الإصلاحات التي بدأت بتغيير قانون الانتخابات، وتشكيل مفوضية جديدة للانتخابات، مروراً بحل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة على أسس وقواعد جديدة ترتكز على مبدأ المواطنة التي تم إرساؤها في المادة (14) من الدستور بأن "العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".
ويتشكل قوام هذا التيار من مكونات الحراك في الشارع العراقي، ويستند إلى مقولات رئيسية بأن المظاهرات العراقية التي أدت إلى مقتل المئات وجرح الآلاف من أبناء العراق لا يمكن أن يكون هدفها فقط تغييراً محدوداً في رئاسة الوزارة أو تغيير الحقائب الوزارية، وإنما تغيير المنظومة ككل، التي كانت أحد مسببات الصراع الطائفي في العراق.
وأفرزت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ما زال يعاني منها المجتمع العراقي، لا سيما أن هذه المنظومة قامت بشكل أساسي على الفرز المذهبي والطائفي والمناطقي.
وربما شكّل اعتماد مجلس النواب لقانون الانتخابات الجديد في 24 ديسمبر/كانون الأول الجاري، خطوة نحو هذا الهدف، لا سيما أنه يعد ثاني أهم المكاسب التي حققها الحراك بعد إجبار رئيس الوزراء على تقديم استقالته.
وقد اشتملت المواد الجديدة والمصوت عليها تلك المتعلقة بطريقة الانتخاب الفردي بالنسبة للمرشحين، واعتماد نظام الدوائر المتعددة على مستوى القضاء في كل محافظة، إلى جانب صعود المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات في الدائرة الواحدة. ويعتقد عدد من المراقبين للشأن العراقي إلى أن إقرار القانون بصيغته الجديدة يعد تراجعاً لهيمنة الأحزاب والكتل السياسية التي احتكرت عبر ممثليها تفاعلات البرلمان في الدورات الانتخابية السابقة؛ حيث كانت القوانين الانتخابية المستندة إلى نظام "سانت ليجو" الانتخابي ونسبه المئوية تضمن صعود مرشحي الكتل والأحزاب حتى مع حصولها على أصوات متواضعة من الناخبين، في مقابل عدم سماحها بصعود الشخصيات المستقلة التي تترشح بشكل فردي لخوض المنافسة البرلمانية حتى مع حصولها على نسبة عالية من الأصوات، وذلك لعدم تمكنها من اجتياز العتبة الانتخابية.
وقد اشتملت المواد الجديدة والمصوت عليها تلك المتعلقة بطريقة الانتخاب الفردي بالنسبة للمرشحين، واعتماد نظام الدوائر المتعددة على مستوى القضاء في كل محافظة، إلى جانب صعود المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات في الدائرة الواحدة.
ويعتقد عدد من المراقبين للشأن العراقي إلى أن إقرار القانون بصيغته الجديدة يعد تراجعاً لهيمنة الأحزاب والكتل السياسية التي احتكرت عبر ممثليها تفاعلات البرلمان في الدورات الانتخابية السابقة؛ حيث كانت القوانين الانتخابية المستندة إلى نظام "سانت ليجو" الانتخابي ونسبه المئوية تضمن صعود مرشحي الكتل والأحزاب حتى مع حصولها على أصوات متواضعة من الناخبين، في مقابل عدم سماحها بصعود الشخصيات المستقلة التي تترشح بشكل فردي لخوض المنافسة البرلمانية حتى مع حصولها على نسبة عالية من الأصوات، وذلك لعدم تمكنها من اجتياز العتبة الانتخابية.
غير أن ممانعة بعض الأحزاب داخل البرلمان لعدد من مواد القانون فيما يخص نسب التمثيل السياسي للقوائم والفردي كان السببب وراء تأجيل البرلمان التصويت على المشروع أكثر من مرة، فضلاً عن بروز مشكلات فنيه مع الدخول في تفاصيل لم يتوقعها مشروعو القانون، التي ظهرت سواء بشأن الدوائر المتعددة، وكيفية احتسابها إن كان على أساس المحافظات أو الأقضية، وانتخابات الخارج وتمثيل النساء.
وبالتالي بدا أن القانون بصيغته الجديدة وباعتباره من مطالب المحتجين الرئيسية يعد نجاحاً لهم في إرغام الأحزاب والقوى السياسية على تمريره في البرلمان، تمهيداً لإجراء انتخابات مبكرة.
وثمة اتجاهات متعددة ترى أن القوى المؤيدة لإجراء الانتخابات المبكرة في العراق تسعى للحصول على امتيازات جديدة في الحكومة المقترح تشكيلها في ظل غياب تمثليها بشكل مناسب في حكومة عادل عبدالمهدي، التي ما زالت تدير البلاد كحكومة لتصريف الأعمال.
غير أن المفارقة في تفاعلات المشهد العراقي كشفتها مواقف الكتل السياسية؛ حيث تتوافق كتلة "سائرون" البرلمانية والمدعومة من مقتدى الصدر، مع مطالب المحتجين والمتظاهرين في ساحات العراق لإجراء الانتخابات المبكرة.
وربما لهذا السبب فسر بعض المراقبين تعرض منزل مقتدى الصدر في منطقة الحنانة بمحافظة النجف لقصف من طائرة دون طيار، والتوقع أن تكون فصائل محسوبة على الحشد الشعبي ومؤيدة لإيران هي من قامت بتنفيذ هذه العملية رداً على مواقفه الداعمة لمطالب المتظاهرين ودعوة أتباعه لحمايتهم.
2- أما التيار الثاني، فإنه يتبنى استمرارية الوضع الراهن مع تغييرات طفيفة سواء باستقالة رئيس الوزراء فقط أو تغيير الوزارة ككل دون المساس بجوهر النظام السياسي القائم منذ عام 2003. ويرفض هذا التيار الدعوات المطالبة بحل البرلمان قبل إكمال مدته القانونية.
ويساند هذا التيار وكلاء إيران من الساسة الذين استفادوا من نظام المحاصصة الطائفية، فعلى مدى الأعوام الماضية جرى بناء العملية السياسية على أساس محاصصة عرقية وطائفية بسبب قوانين الانتخابات ومفوضية الانتخابات التي تشكلت على أساسها وبموجب مخرجات تلك القوانين وتأثيرها على التمثيل البرلماني، حيث جرى توزيع المقاعد والمناصب طبقاً للمحاصصة.
فالرئاسات الثلاث جرى توزيعها وفقاً للمكونات رغم أنه لا يوجد نص دستوري لذلك فمنذ عام 2003 أصبح التقليد هو اختيار كردي رئيساً للجمهورية، وشيعي رئيساً للوزراء وهو المنصب التنفيذي الأهم، وسني رئيساً للبرلمان. أما الوزارات السيادية فيتم توزيعها على أساس المكونات أيضاً فإذا كانت وزارة الدفاع للسنة فإن وزارة الداخلية للشيعة أو بالعكس.
والأمر ينطبق نفسه على ثلاث وزارات سيادية أخرى هي: المالية والنفط والخارجية، فيما توزع الوزارات الأخرى حسب التوافق بين الكتل والمكونات، وهو ما ينعكس في النهاية على التشكيلة الحكومية برمتها، ويسهم في إطالة أمد تشكيلها حتى تحدث التوافقات المطلوبة.
وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في الجدل الدائر حول تحديد الكتلة الأكبر داخل البرلمان، زاد من غموض تحديدها رد المحكمة الاتحادية العليا على طلب من رئيس الجمهورية برهم صالح بإبداء رأيها بـالكتلة الأكبر التي من حقها تسمية رئيس الوزراء دون أن تحدد الكتلة، ما دفع صالح إلى الطلب من البرلمان تحديدها؛ حيث اعتبر البرلمان أن كتلة البناء هي الأكثر عدداً.
الأمر الذي أدى إلى اتجاه الكتلة لترشيح وزير التعليم الحالي قصي السهيلي لتسميته رئيساً للوزراء من قبل رئيس الجمهورية ثم ترشيح أسعد العيداني بعد ذلك.
وتضم الكتلة تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، وائتلاف دولة القانون بزعامة نور المالكي وعصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي. غير أن قوى الحراك رفضت ترشيحات كتلة البناء بوصفه تحدياً سافراً لإرادة الشعب واستهانة بدماء آلاف الضحايا الذين سقطوا في الاحتجاجات.
وتبدو معضلة الكتلة الأكبر في أن كتلة "سائرون" بزعامة مقتدى الصدر تعتبر نفسها الكتلة الأكبر داخل البرلمان، لأنها خاضت الانتخابات وحصلت على أكثرية مقاعده، وتنازلت عن حقها في تسمية رئيس الوزراء بعد اندلاع المظاهرات، واعتبرت أن الشعب هو الكتلة الأكبر.
أما تحالف البناء بقيادة هادي العامري فقد تشكل بعد إعلان نتائج الانتخابات ويتمسك بتسمية رئيس الوزراء. وربما مثل تقديم رئيس الجمهورية لاستقالته ووضعها تحت تصرف البرلمان رفضاً منه للضغوط بشأن تسمية أسعد العيداني محافظ البصرة السابق مرشح كتلة البناء رئيساً للوزراء، ورغبته في الاستجابة لإرادة الشارع العراقي، وأن يكون الحراك السياسي والبرلماني معبراً عن إرادة الشعب مصدر السلطات جميعها.
سيناريوهات محتملة
في ضوء تأزم المشهد العراقي، وإعلان رئيس الجمهورية وضع استقالته تحت تصرف البرلمان، وجدل الانتخابات المبكرة، وعدم قدرة القوى السياسية على وضع خريطة طريق محددة المعالم للخروج بحلول تسهم في الحفاظ على وحدة العراق ومنع تدهور الأوضاع، فإن ثمة سيناريوهات ثلاثة يمكن أن نشير إليها في التالي:
1- سيناريو الفوضى: يقوم هذا السيناريو على أن البديل لاستمرارية الوضع الحالي ومكتسباته السياسية والاقتصادية لصالح طبقة بعينها هو الفوضى الشاملة وانهيار العملية السياسية برمتها. ويتبنى هذا السيناريو الساسة العراقيون المرتبطون بإيران. ويقوم مؤيدو هذا السيناريو على التلويح بعودة تنظيم داعش إلى صدارة المشهد بعد نجاح العراق وبدعم خارجي في هزيمة التنظيم في مناطق تمركزه الرئيسية، إذ إن فلول التنظيم ما زالت لها وجود في مناطق متفرقة من العراق.
2- سيناريو تغيير قواعد المنظومة السياسية: ثمة اتجاه يرى أن تغيير القواعد التي شكلت نظام ما بعد صدام حسين سيسهم في تغيير المنظومة السياسية ككل. وهو الاتجاه الذي تتبناه قوى الحراك في الشارع العراقي. وربما شكّل تغيير قانون الانتخابات، وتغيير ممثلي مفوضية الانتخابات، دعماً لهذا التوجه.
غير أن التحدي الأبرز الذي يواجه هذا السيناريو يتمثل في رفض ممثلي الحراك الحلول الوسط والإصرار على التغيير الجذري للمنظومة.
وهو الأمر الذي لا يمكن تحققه على أرض الواقع في ظل مشهد قائم وتشكل منذ 16 عاماً، والتعامل معه يحتاج إلى حلول واقعية وليست مثالية، لا سيما أن خبرات التحول والانتقال عقب الانتفاضات تتسم فيها المراحل الانتقالية بوجود بقايا النظام القديم بجوار النظام الجديد الذي يبدأ في التشكل، حتى ينجح النظام الجديد في تثبيت ركائزه عبر ممارسات تكتسب رضاء الشارع وثقته.
3- سيناريو الرجل القوي: يقوم هذا السيناريو على إخفاق المؤسسات في تلبية مطالب المحتجين في التغيير الجذري للمنظومة السياسية القائمة، وهو ما سيؤدي إلى وصول المفاوضات بين ممثلي السلطة والمحتجين في الساحات إلى طريق مسدود.
ويؤدي هذا الواقع إلى إمكانية بروز شخصية قوية يلتف حولها العراقيون، تتجاوز الأحزاب السياسية وتنجح في استقطاب المتظاهرين والمحتجين في ميادين العراق المختلفة. وتتبنى هذه الشخصية مشروعاً وطنياً يلتف حوله العراقيون يقوم على استعادة ركائز الدولة الوطنية ومؤسساتها ورفض النفوذ الخارجي على سيادة العراق.
في النهاية فإن نجاح أي من السيناريوهات الثلاثة سيتوقف على مدى قدرة القوى السياسية العراقية ونجاحها في إدارة الأزمة الممتدة عن طريق النقاط المكتسبة تدريجياً والمشاورات وليس بالضربة القاضية، لتغيير المعادلة السياسية في العراق في ظل تشابكاتها الإقليمية والدولية.
وربما يمثل إقرار قانون الانتخابات الجديد وتشكيل مفوضية جديدة للانتخابات تمهيداً لإمكانية إجراء الانتخابات المبكرة برغم صعوبة تكلفتها واعتبارها فرصة مواتية، للبدء في تغيير قواعد المنظومة السياسية والشروع في بناء نظام سياسي كفء يرتكز على أسس من المواطنة والثقة التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبما يسهم في إحداث تغيير جوهري في معادلة الحكم القائمة.