لا تزال العملية السياسية تعيد إنتاج نفسها في كل سنة انتخابات، والنتيجة واحدة: دخول العراق في عصور الظلام.
مر العراق بعصور الظلام ولكن بذور الاستنارة كانت تكمن في داخله، تنضج وتتبلور وتتكون، قاطعة قروناً لكي يصل إلى بدايات تأسيس الدولة العراقية 1921. وتمكن من اجتياز كل أشكال التخلف والأمراض والحروب لكن عجلته لم تتوقف. فإذا كانت رواية رفيق شامي "الجانب المظلم من الحب" تؤرخ لـ120 سنة من الأحداث والاضطرابات والنزاعات والاعتقالات عبر قصة حب بين شاب وفتاة لا ذنب لهما في المجتمع الطائفي والمتناحر الذي يعيشان فيه، فإن الجانب المظلم من العراق يتجلى فيما وصل إليه منذ 2003 عبر الحروب والاضطرابات والطائفية والقتل على الهوية.
لا تزال العملية السياسية تعيد إنتاج نفسها في كل سنة انتخابات، والنتيجة واحدة: دخول العراق في عصور الظلام ولا توجد أي بوصلة في الأفق تنقذ البلد من التدهور. وكل مَنْ ينتقد تجار الطوائف ورؤساء العشائر وسياسيي الصدفة يتعرض للتصفية.. عاجلاً أم آجلاً.
ولدت التقسيمات الطائفية من أعلى الهرم، من مجلس الحكم الذي شهد المحاصصة الطائفية لأول مرة في تاريخه. ثم نزل هذا الداء العضال إلى الشارع، وبدأت عمليات تطهير المناطق والأحياء من أجل استخلاص المكون الواحد الذي تخيل بأنه يعيش بسلام في هذا التجانس القسري الطائفي المقيت. ولم يتحقق ذلك بل زاد في الطين بلة. وها هو العراق يغرق في العصور الغابرة، ويشهد على أكثر أنماط العنف بربرية ووحشية. ولعل آخر فصولها اليوم العثور على 31 جثة قتلى، ولكن المعضلة ليس في هذه الإبادة الجماعية لأنهم من مدينة "جرف الصخر"، التي هُجر أهلها ولم يسمح لهم بالعودة، بل في أن القاتل ظل مجهولاً رغم انتشار مختلف الأجهزة الأمنية التي تمتلك كل الإمكانات التقنية والمالية والبشرية. هذا القاتل المجهول هو الشبح والسر الذي لا يمكن فك رموزه وشيفرته أحد وبالأحرى لا يتجرأ أحد على ذلك. ومما يزيد في فداحة المأساة أن الجثث هي الأخرى مجهولة. أي أصبحنا ندور في فلك المجهول، وهناك جانب غامض وعائم وضبابي في كل شيء. ولو وقعت هذه المأساة في أي بلد آخر، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولتمت إجراءات التحقيقات والبحث الجنائي وغيرها من أجل الكشف عن هوية القاتل وهوية المقتول أيضاً. ولكن مع الأسف لم يحدث أي من ذلك في هذه الحالة، وقضى هؤلاء البشر، ومعظمهم من المختطفين من المناطق المحررة، وبعدها تم تسليمهم بكل هدوء إلى إحدى منظمات المجتمع المدني للتخلص منهم ودفنهم بدون مراسيم أو طقوس، فأين مسؤولية الحكومة الأخلاقية والقانونية إزاء أبنائها ومواطنيها؟!
وفي الأثناء، انفجرت مخازن عتاد وأسلحة تابعة للحشد الشعبي وتسببت في دمار وخراب وفوضى وسط الأحياء السكنية الآمنة. وثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح: "هل المجتمع العراقي بحاجة إلى الحشد الشعبي في ظل وجود جيش وشرطة بأعداد مهولة؟" "هل نحن بحاجة إلى 67 تنظيماً مليشياً لاستتباب الأمن بعد القضاء على داعش؟" لا سيما في الوقت الذي تستمر هذه المليشيات بقتل كل مَنْ كان منتسباً إلى الجيش السابق، وصفّت أكثر من 20 صحفياً في العام الفائت فقط، واختطف أكثر من 2000 طبيب وأستاذ جامعي ورجل أعمال على مدى السنوات المظلمة.
توثيق تقارير الأمم المتحدة صادمة ومهولة: يتم اختطاف 42 طفلاً شهرياً، وصل عددهم إلى 1496 طفلاً مختطفاً، لكن الحكومة لم توثق حالات اختطافهم، ولم يتم الإبلاغ عنهم. فمَنْ يختطفهم؟ ومَنْ وراء كل هذه العمليات؟ وهل الحكومة بكل تشكيلاتها العسكرية والشرطية عاجزة عن وضع حد لهذه الجرائم؟ لم يسجل العراق على مدى سبعين عاماً منذ الاستقلال وحتى الآن مثل هذا العدد المخيف لحالات خطف الأطفال حتى إن منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "يونيسف" ذكرت أن واحداً من كل خمسة أطفال عراقيين معرّض اليوم للخطف أو العنف الجنسي أو خطر الموت.
تصول العصابات وتجول في بغداد والمحافظات الأخرى، يوجد حسب الإحصائيات في بغداد لوحدها نحو 15 عصابة تستخدم هويات رسمية وسيارات حكومية، ومرتبطة بجهات سياسية، تمتلك سلاح الدولة وتتجول بحرية.
ثم يأتينا خبر القبض على الحاج حمزة، أكبر رئيس مافيا في العراق، المسيطرة على جميع صالات لعب القمار وتجارة المخدرات، وبيع وشراء النساء ومعه 25 آخرون من أتباعه ممن يدعون انتماءهم للحشد الشعبي ويمتلكون هويات مزورة، وبعد أن استبشر الناس بهذا الخبر، سرعان ما أفرج عنه بتسوية مالية، وكأن شيئاً لم يكن. لقد أصبحت ظاهرة الجريمة المنظمة مألوفة تستهدف كل شرائح المجتمع ومختلف الأعمار، ومن بينها جرائم اغتصاب، وقتل، وسطو مسلح، ومتاجرة بالأعضاء البشرية!
وهكذا يتبوأ العراق المرتبة الثانية والستين بعد المئة في التقرير السنوي العاشر لمؤشر السلام والأمن العالمي للعام الماضي، ولا توجد بعده سوى دولتين، جنوب السودان وسوريا. ومنذ احتلال العراق، لم تهدأ الأوضاع بآلاف التفجيرات ونهب الثروات النفطية والآثار في ظل تدهور الاقتصاد وتراكم الديون وتراجع الخدمات الحياتية. ولا تزال العملية السياسية تُعيد إنتاج نفسها في كل سنة انتخابات، والنتيجة واحدة: دخول العراق في عصور الظلام ولا توجد أي بوصلة في الأفق تنقذ البلد من التدهور. وكل مَنْ ينتقد تجار الطوائف ورؤساء العشائر وسياسيي الصدفة يتعرض للتصفية.. عاجلاً أم آجلاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة