إيران.. من تصدير الثورة إلى تصدير القمع
الاحتجاجات في لبنان والعراق أفقدت إيران ما بقي لها من بريق الثورة، فلم يبق لها سوى صورة النظام المستبد، الطامح لفرض هيمنته على الجوار.
رفع نظام الخميني، منذ تأسيسه، شعارات الثورة، فدعم جماعات تزعم الثورية، واتبع في سبيل ذلك أساليب الدعاية والتحريض والإرهاب وتأسيس المليشيات.
نجح نظام طهران في التلاعب بمشاعر أبرياء، فاخترق المجتمعات ونظم الحكم في بلاد نصب فيها أنظمة حكم تتلقى أوامره، ويحتل فيها عملاؤه مراكز مفصلية حاكمة، فشلت النظم التي يسيطر عليها عملاء إيران، وثارت الشعوب عليها، فتوقف النظام عن تصدير الثورة للجوار، وراحوا يصدرون فنون القمع؛ فهذا مسؤول إيراني يفخر بخبرة بلاده في قمع الثورات؛ وذاك داعية عراقي مشهور بتأييده للنظام الإيراني ينصح رئيس وزراء العراق بقتل قادة الفتنة أثناء اجتماعهم في أحد المحال العامة في بغداد.
فيما دعت صحيفة كيهان القريبة من المرشد خامنئي إلى ضرب المحتجين في بيروت بيد من حديد، وإلا اضطر حزب الله لإرسال مليشياته للقيام بهذه المهمة.
سواء صدرت إيران الثورة، أم صدرت القمع، فهي تبقى في الحالتين قوة عدم استقرار، تتدخل في شؤون الجيران من أجل تحقيق طموحات جامحة للهيمنة الإقليمية؛ أما الجديد فهو أن الاحتجاجات في لبنان والعراق أفقدت إيران ما بقي لها من بريق الثورة، فلم يبق لها سوى صورة النظام المستبد، الطامح لفرض هيمنته على الجوار بكل الوسائل.
- سياسة إيران التخريبية تحرق قنصلياتها في العراق
- فورين بوليسي: احتجاجات لبنان والعراق تكشف تراجع نفوذ إيران بالمنطقة
صعد نظام الخميني إلى السلطة في إيران في فبراير/ شباط عام 1979، بعد فترة اضطراب ثوري بدأت قبل ذلك بحوالي عامين. وقعت ثورة الخميني في نهاية حقبة صعود حركات التحرر الوطني بتياراتها القومية واليسارية في العالم العربي، وهي الحقبة التي تحققت فيها إنجازات مهمة، وإن كانت انتهت بإخفاقات شديدة.
كان لحركة التحرر الوطني العربية وعود طموحة لتحرير فلسطين، وتحقيق الحرية والاشتراكية والوحدة، أي التحرر الداخلي والخارجي؛ والعدالة الاجتماعية من خلال ترتيبات اشتراكية، والوحدة القومية عبر تجاوز الدولة القطرية إلى دولة الوحدة العربية الشاملة والكاملة.
بحلول النصف الثاني من السبعينيات كانت وعود حركة التحرر الوطني العربية قد تساقطت واحدا بعد الآخر، فهزيمة يونيو جعلت تحرير فلسطين حلما بعيد المنال، وسيطرة الاستبداد والبيروقراطية اختزل التحرر والاشتراكية إلى نوع من رأسمالية الدولة المستبدة في أحسن الأحوال؛ أما الوحدة القومية فقد تبين، منذ انهارت دولة الوحدة المصرية السورية عام 1961، أنها هدف مراوغ، لا يمل العرب من الحديث عنه، لكنهم لا يستطيعون تحقيقه.
على خلفية هذه الإخفاقات قامت ثورة الخميني في إيران، تلاعبت الدعاية الثورية بعقول محبطين، خلبت عقولهم دعاية الملالي عن الأرض التي ستمتلئ عدلا بعد أن امتلأت جورا وظلما. ستدخل الثورة الإيرانية التاريخ باعتبارها الثورة صاحبة الشعارات الأكثر غموضا بين الثورات، والتي تميزت بالكثير من البلاغة، والقليل جدا من النقاط البرنامجية المحددة. إنها خدعة معروفة في عالم السياسة؛ فالنقاط البرنامجية عرضة للتمحيص والفحص والقياس والتفنيد، وهي عرضة أيضا لانقسام الآراء حولها بحكم اختلاف الرؤى والمصالح.
ولكن من له أن يعترض على تمكين المستضعفين، وهزيمة الاستكبار، والقضاء على الطاغوت، والموت للشيطان الأكبر؟ إنها شعارات جذابة، تطلق شحنة عاطفية قوية، فيما تعاني من خواء كامل في المحتوى. هكذا تلاعب الخميني وآلته الجهنمية من الملالي بمشاعر الناس في إيران، فأعجبهم ما أنجزوه هناك، وراحوا يجربونه في العالم العربي، تحت شعار تصدير الثورة.
كانت السحب الثورية تتجمع في سماء إيران، فيما كانت سحب الإحباط والشعور بالهزيمة والعجز تتجمع في سماء العالم العربي. كانت الثورة المنتصرة في إيران تشع إحساسا بالثقة والتفاؤل، فيما اهتزت ثقة العرب في أنفسهم ومستقبلهم. لقد انهزمت الأيديولوجيات القومية واليسارية التي ملأت العالم العربي صخبا طوال العشرين عاما السابقة، تاركة وراءها فراغا أيديولوجيا وفكريا موحشا.
فيما كانت أيديولوجيا الخوميني الإسلامية تتوهج على الجانب الآخر من الخليج، خاطفة أبصار كثير من المحبطين في العالم العربي، كانت هذه لحظة عدم توازن معنوي وأخلاقي مخيفة، وهي اللحظة التي ركبها الملالي لتصدير ثورتهم للجوار.
لقد لعبها النظام الإيراني باحترافية عالية، فلم يردوا يدا امتدت لتنهل من ماعونهم الثوري الغني بالشعارات والتكتيكات والمتفجرات والأموال ووثائق السفر المزورة.
كان هناك شيوعيون وقوميون وراديكاليون وقوميون وإسلاميون. دق كل هؤلاء على أبواب نظام طهران، فحصل كل منهم على شيء يناسب مساهمته في إضعاف مناعة الجسد العربي، وتهيئته لاستقبال الفيروس القادم من الجهة الشرقية للخليج، ودوره في استكمال خطة الملالي للسيطرة على المنطقة. غير أن التنظيمات المذهبية والطائفية كانت طوال الوقت هي أداة إيران الرئيسية في المنطقة، وعبرها نجحت إيران في اختطاف عواصم عربية تفاخر قاسم سليماني بأنها تحكم من طهران، ومن بينها بغداد وبيروت اللتان تنتفضان الآن ضد سيطرة إيران وأتباعها.
سقط العراق ثمرة ناضجة في حجر إيران بعد الغزو الأمريكي عام 2003، المفارقة الكبرى التي أسفر عنها الاحتلال الأمريكي، هي أن حكم العراق قد آل إلى قوى آوتها ومولتها ودربتها إيران لأعوام طويلة، كما لو كانت إيران قد استأجرت الولايات المتحدة لتزيح نظام صدام حسين نيابة عنها، قبل أن تسلمها العراق مضعضع القوى.
بعد عدة سنوات بدأت القوى العراقية المدعومة إيرانيا تتململ من فرط التدخل الإيراني في شؤون بلدها، وبحثا عن استقلالها الذاتي في مواجهة الجار الإيراني الثقيل، إلا أن ملالي إيران وجدوا في ظهور دولة الخلافة الداعشية فرصة ذهبية، فتبنوا إنشاء الحشد الشعبي، وهي مليشيا طائفية متعصبة يدين قادتها بالولاء لملالي إيران، ويؤمن أغلبها بعقيدة ولاية الفقيه، وهي نفس القوى التي تولت اقتناص المتظاهرين العراقيين، وعليها تقع مسؤولية قتل العدد الكبير من المتظاهرين العراقيين الذين سقطوا في الاحتجاجات.
قصة السيطرة الإيرانية على لبنان عبر حزب الله أكثر إثارة وتشويقا، خاصة وأن حزب الله يمثل النموذج المثالي لمليشيا ومنظمة سرية، ولاية الفقيه هي عقيدتها، والمرشد الإيراني هو مرشدها، بلا مواربة أو خجل، خلع دور حزب الله في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان على الحزب عباءة وطنية وقومية، أخفت طائفية الحزب لبعض الوقت.
بدأت أزمة حزب الله في اليوم الذي انسحبت فيه إسرائيل من جنوبي لبنان مايو/ أيارعام 2000، إذ عندها لم يعد لراية المقاومة التي رفعها الحزب من معنى، وفقد حزب الله شرعية تنظيمه العسكري، وشرعية السلاح الذي امتلكه خارج إطار شرعية القانون والدولة اللبنانية.
حاول الحزب إطالة أمد الغطاء الذي وفره شعار المقاومة، فاصطنع حججا واهية من نوعية مزارع شبعا المحتلة، لكن هذه الحجج لم تكن كافية لتوفير الشرعية اللازمة الحزب، تصرف حزب الله كما لو كان يستدعي الاحتلال الإسرائيلي للعودة، ليقاومه الحزب مرة أخرى، ويستعيد شرعيته من جديد؛ وهذا هو ما فعله الحزب بالفعل في مغامرة صيف عام 2006، وهي المغامرة التي قال عنها حسن نصر الله إنه لو كان يعرف حجم رد الفعل الإسرائيلي ما بادر بخطف جنود إسرائيليين عبر الحدود.
سقوط ورقة المقاومة أجبر حزب الله على كشف أوراقه، فدخل بعمق في السياسة اللبنانية، التي طالما نظر إليها باستعلاء، إذ ليس للمقاوم باسم الله أن يتورط في سياسة لبنان بما فيها من طائفية ومحاصصة وفساد.
كان دخول حزب الله إلى السياسة اللبنانية إجراميا ومدويا، فأعضاء مهمون في حزب الله مازالوا المتهمين الرئيسيين في قضية اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005؛ أما حرب صيف 2006 فكانت محاولة من الحزب للتغطية على الأزمة التي تخلفت عن اغتيال الحريري.
فلما أخفقت هذه الألاعيب المسلحة في توفيق وضع الحزب لبنانيا، اضطر الحزب للعب على المكشوف، فقامت مليشياته باحتلال بيروت الغربية ذات الأغلبية السنية في صيف 2008، لفرض قواعد جديدة للسياسة اللبنانية، يحكم بمقتضاها حزب الله كل لبنان من وراء ستار حكومة منتخبة يخشى كل فرد فيها على حياته من عسف المليشيا المسلحة، وهو الوضع الذي انتفض اللبنانيون ضده مؤخرا.
دار الزمن دورة كاملة، وكفت إيران عن تصدير الثورة، وأصبحت طهران مركزا لإدارة أكبر عملية قمع للانتفاضات الشعبية على النطاق الإقليمي.
مازالت شعارات تمكين المستضعفين ترفع في طهران، لكن هذه الشعارات لم تعد تقنع أحدا، بعد أن خبا بريقها، وظهر ما تخفيه وراءها، ما يحدث في العراق ولبنان هو نقطة تحول تاريخية، وإعلان بنهاية طهران كمركز للإشعاع الأيديولوجي والأخلاقي، وأن إيران سيكون عليها من الآن فصاعدا الاعتماد على قوة القمع الخشنة للحفاظ على نفوذها؛ وهذه هي بداية النهاية للحقبة الإيرانية في تاريخ الشرق الأوسط.