الروائي العراقي زهير كريم لـ"العين الإخبارية": الحرب أكثر التجارب المستفزة إبداعيا
"العين الإخبارية" تحاور القاص والروائي العراقي زهير كريم، صاحب رواية "صائد الجثث" والمجموعة القصصية "ماكينة كبيرة تدهس المارة"
قال القاص والروائي العراقي زهير كريم إنه لا يعتمد الصرامة في التخطيط بالنسبة لعملية الكتابة، ولا يعمل على أساس رؤية هندسية بقياسات دقيقة تكون لديه فكرة ومخطط بسيط، لكنه يدرك تماما ومنذ البداية أنه لا يعني الكثير، بل هو مرسوم من أجل أن يمحى.
وأكد صاحب "ماكينة كبيرة تدهس المارة"، في حوار مع "العين الإخبارية"، أنه سيظل مخلصا لفن القصة القصيرة، مهما شغلته الرواية، لافتا إلى أنه أنجز أكثر من مجموعة قصصية، بتقنيات متنوعة، وهي محاولات للدخول إلى مناطق أسلوبية جديدة، وثيمات غير مستهلكة.
زهير كريم كاتب وشاعر عراقي، من مواليد بغداد 1965 هاجر إلى الأردن عام 1993 ثم تنقّل بين مدن كثيرة حتى استقر به الحال في بروكسل عام 2002، برز اسمه بعد صدور روايته "صائد الجثث"، وعقب وصول مجموعته القصصية "ماكينة كبيرة تدهس المارة" لقائمة جائزة لملتقى للقصة القصيرة بالكويت.
وإلى نص الحوار:
جاءت مجموعتك "فرقة العازفين الحزانى" لتسرد حكايات وأوجاع سكان العراق في نصوص عن الألم والهم الإنساني وويلات الحروب، هل يمكن أن تنسحب تلك الحالة على الإنسان في العموم؟
الشاعر الألماني جوته يقول إن الأدب هو لقاء إنساني، ويبدو أننا على أساس هذه الجملة المكثفة مضطرون لاستحضار مصطلح الأدب العالمي، وأقصد ما ترجم منه إلى لغات أخرى، لكن هل كان هذا الأدب عالميا بسبب استضافته من قبل لغة أخرى، أم بسبب ثيمات النصوص؟ لقد قرأنا أدب أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، فمنحنا المترجمون فرصة عظيمة للقاء الآخر، تفاعلنا مع الوقائع الشخصية والجمعية له، أحببنا وكرهنا الشخصيات المنسوجة من قماش محلي، وتعرفنا على رؤى وتقاليد لها علاقة بمنطقة ثقافية مختلفة.
نعم التقينا مع هذا الأدب في مساحة الإنسانية، وعقدنا مقارنات مع تجاربنا، وبالتالي فإن التجربة البشرية في كل مكان تتقارب وجوديا في نقاط كثيرة، التجربة السياسية في العالم الثالث، الحروب الاستعمارية، الثورات، الحبّ بكل تجلياته، وأيضا، الحيرة أمام سؤال الموت نفسه، لهذا أظنني متفقا مع فكرة أن الأدب كله يتسم بالمحلية، لكن بالعالمية في الوقت نفسه.
"فرقة العازفين الحزانى" مجموعتي القصصية الثانية الصادرة عن دار الرافدين، ومجموعة "رومانتيكا" الصادرة عن سطور، وقبلها "ماكينة كبيرة تدهس المارة" الصادرة عن دار المتوسط، كلها تحركت في حدود هذا المعنى، وبالعودة إلى جوتة مثالا، فقد قرأ الرجل ألف ليلة وليلة مثل بورخيس وغيره، فالأدب في النهاية فكرة إنسانية أساسها الرغبة الملحة في معرفة الآخر، والحكاؤون بشكل خاص، يحاولون في بنية سردياتهم الإطاحة بفكرة الانغلاق، إنهم يعالجون الوقائع على النحو الذي يظهر فيه النص الإبداعي قريبا من روح العالم، فقط يحتاج لمنحه فرصة أن يكون ضيفا على لغة أخرى.
في روايتك الأولى "قلب اللقلق" استحضرت زمن دخول القوات البريطانية العراق، وفي "صائد الجثث" تحدثت عن الحرب العراقية الإيرانية، وفي مجموعاتك القصصية تبقى الحرب ظاهرة ومحركة بل بطلة للأحداث، هل يمكن أن نعتبر الحرب ملمحا أساسيا لكتابتك؟ وهل تسعى للخروج من سيطرة فكرة الحرب على كتاباتك أم تجدها الطريقة أو العالم الأقرب لتعبر عن أفكارك وتصوراتك؟
بالتأكيد، إن الحرب هي أكثر التجارب الإنسانية أصالة ومأساوية في الوقت ذاته، أصلية لأنها نشأت مع أول التجارب البشرية في هذا الكوكب، ومأساوية لأنها تعبير عن الجانب المعتم في النفس، وثمة شيء ما يمكن أن نطلق عليه سلطة الذاكرة، هذه السلطة هي نفسها من تضع الوقائع المؤثرة في خانات متقدمة، لهذا هي حاضرة دائما.
وعندما نتكلم عن عراقي، امتلأت سيرته الشخصية بسلسلة من الحروب، لا يمكن أن نقاوم هذه السلطة، ربما تحايلنا عليها، لكنها في النهاية تفرض شروطها، وتدفع الحرب، الخبرة البصرية والوجدانية، وأيضا الترسيات التي شكلت بمرور الزمن عدم ثقتنا بالعالم، إذن ثيمة الحرب لا بد أن تكون مهيمنة في الحديث اليومي، وفي النصوص الإبداعية، الحرب هي الأثر الذي لا يمحوه الزمن، فهي لا تذهب بعيدا، بل تستقر في مكان ما داخل المنطقة العميقة، هذا الأثر هو الذي سيكون حاضرا فيما بعد، حتى لو كان طيفا، أو مثل الهواء الفاتر في الكتابة، هو الذي سيهيمن على نشاط المخيلة، فيظهر هنا أو هناك داخل نسيج النص الأدبي، مشهد رفيق مقتول، صرخة أم، وأنين الجرحى، هدير مدافع وأزيز الرصاص. فطبيعي جدا أن يكون خوض تجربة الحرب سواء بشكل مباشر كجندي، على سواتر الجبهة، أو كمدنيّ يعيش أجواءها بطرق أخرى، هو شيء لا يمكن تجاوزه، إن تأثيرها يصل في أحيان كثيرة إلى دخول نفق مظلم، الجنون مثلا، والأمراض النفسية الأقل خطورة، رغم أنها تشكل تهديدا لما يمكن وصفه بالحياة الطبيعية.
بالنسبة لي كنت أفكر بسردية التاريخ، ليس كمدونة أو وثيقة رسمية، بل برؤية أدبية، وكنت مؤمنا وما زلت بأن نزاهة الأدب، تعري خبث التاريخ، لهذا اخترت في قلب اللقلق منطقة تشكل مفصلا في تاريخ العراق الحديث، وهو الاحتلال البريطاني للعراق، وكنت أحاول أن أعيد كتابة الحدث، معتمدا على رؤية الوعي الشعبي، وعي الهامش بالتحولات التي سوف تنتجها هذه الحادثة الكبيرة، وفي صائد الجثث أيضا، كان الأمر يشبه استنطاق الضمير الإنساني، ليقول شيئا بوجه الوحشية التي عبرت عنها المشاهد المروعة لأحداث الاقتتال الطائفي ما بين عامي 2005 و2007.
تبدو عناوين أعمالك لافتة للغاية، كيف تختار العنوان؟
لا بد من الاعتراف أولا بأن اختيار العنوان قضية مربكة، صعبة للغاية، تتدخل الصدفة أحيانا في واحد منها فيجلب الرضا، وأحيانا يستغرق الأمر وقتا طويلا، بالنسبة لي، عادة ما أضع عنوانا مؤقتا، لكن في الغالب يجيء عنوان آخر مكانه. من ناحية أخرى، أنا مع فكرة اعتبار العنوان عتبة أولى، يحب أن تمثل كشفا داخل النص، لكن لا يجب أيضا أن يكون العنوان ذا دلالة مباشرة.
في مجموعتي الأولى "ماكينة كبيرة تدهس المارة" كان الاختيار بالصدفة، حصل ذلك عندما كنت أقرأ في كتاب شعري للبلجيكي هنري ميشو، وفي نص له يتحدث عن ماكينة عملاقة، هذه الماكينة هي بالتأكيد، الماكينة الصناعية المتوحشة، من جانبي، حاولت تطوير هذه الدلالة من خلال ثيمات النصوص في مجموعتي، فكان العنوان تمثيلا لتجربة الشخصيات المسحوقة بماكينة الحرب، العزلة، الجنون، الهجرة، ومواضيع أخرى.
أما "فرقة العازفين الحزانى" كان واضحا لي أن الوقائع والشخصيات في نصوص الكتاب تلتقي كلها لتنسج قطعة موسيقية منسجمة تماما، ومعبرة في الوقت نفسه عن تاريخ مدينة لم تشهد في أي فترة من تاريخها، هامشا حقيقيا من الرخاء والاستقرار، بل الحروب من كانت تدون سيرتها، والهجرات، غزوات الأعداء، القمع الثقافي والاجتماعي والسياسي، وأيضا الفقر والمجاعات والفيضانات.
بالنسبة للكتابة نفسها، هل تخطط رحلة شخصياتك وأهدافهم بحيث ترسم لهم خريطة معينة يسيرون وفقها أم تترك الأمر هكذا للوحي والإلهام؟
بالنسبة لي، لا أعتمد الصرامة في التخطيط، لا أشتغل على أساس رؤية هندسية بقياسات دقيقة، نعم هناك فكرة، ومخطط بسيط، أدرك تماما ومنذ البداية بأنه لا يعني الكثير، بل هو مرسوم من أجل أن يمحى، وفي ظني أن النص القصصي يبدأ عادة بفكرة غائمة، مشهد أو ربما بحكاية صغيرة، أو ربما حتى جملة وحسب، لكنها تحمل طاقة ما يمكن توظيفها لبناء نص أدبي.
وغالبا ما تكون الشخصيات القصصية في البداية غير واضحة المعالم، هي مجرد أطياف، والوقائع غير مترابطة، حتى الحكاية هي مادة خام غير معالجة، لكن دخولي في صلب العمل هو بداية تشكل الأشياء والأحداث، تظهر ملامح للشخصيات، والوقائع تعرض كمشهد بصري، إنها مرحلة معالجة الحكاية لتحويلها إلى أدب.
قلت قبل ذلك إن الشعراء هم أفضل من يكتبون السرد، لماذا؟
لم يكن رأيا نقديا يخضع لآليات مقاربة، ومناهج نقدية، لكنه في الوقت نفسه ليس عابرا تماما، عندما يتعلق الأمر بنشاط اللغة التي تفور باستمرار لخلق معان جديدة، وخلق مطابقات أو أوعية تستوعب الصور التي تنتجها المخيلة، لكني اعتمدت في هذا الرأي الذي يبدو عاطفيا انفعاليا ومتحيزا نوعا ما، على قراءات لعدد من القرائن النصية، قصص وروايات ناجحة ومتميزة، والتي كتبها شعراء، انتقلوا فيما بعد إلى السرد.
والحقيقة أن خارطة الرواية العربية مليئة بعلامات دالة تقودنا في النهاية لهذه الرؤية، إذ إن النظر في السيرة الأدبية لمعظم كتاب السرد العرب، سوف يوضح لنا أن بدايات هؤلاء الكتاب كانت شعرية خالصة.
ماذا تكتب الآن؟
أكتب باستمرار القصة القصيرة، وسأكون مخلصا لهذا الفن الساحر، لدي رواية كنت كتبتها قبل 5 سنوات، وهي آخر نص روائي أنجزته قبل أن أنشغل تماما بكتابة القصة، ربما تصدر العام المقبل، لا أدري، لكن القصة القصيرة على كل حال، ستكون منطقة اهتمامي الأولى، وأجزت بعد مجموعتي الأخيرة، أكثر من مجموعة قصصية، بتقنيات متنوعة، هي محاولات للدخول إلى مناطق أسلوبية جديدة، وثيمات غير مستهلكة أيضا.
aXA6IDE4LjE5MS4xOTUuMTA1IA==
جزيرة ام اند امز