على مدار أربعة أيّام، شعر العالمُ برُمَّته، وليس المنطقة العربيّة فحسب بفرح كبير، جَرّاء الزيارة الناجحة للبابا فرنسيس إلى العراق.
والتي أثبتتْ أنّ الأمل له رجالاته، وأنّ الحياة دائمًا وأبدًا قادرة على الانتصار على الموت.
أربعة أيّام صال وجال فيها فرنسيس، الفقر وراء جدران الفاتيكان، أرجاء العراق، رغم المخاوف العامّة التي أحاطت به، من جائحة متفَشّية، وأوضاع لوجستيّة غير مطمئنة، ناهيك عن آلام شخصيّة عاينها الجميعُ، تمَثَّلتْ في الالتهاب العصبيّ الذي أصاب ساقه.
أثبت فرنسيس أنّ الأخُوّة الإنسانيّة هي أفضل طريق يمكن أن نمضي عليه سويًّا كبشريّة، رغم الآلام الشخصيّة، ومعها وبها يمكننا القفز فوق الجراحات والعداوات، كما يمكننا معًا أن نجد مسار الأمل والعمل.
لم تكن زيارة فرنسيس للعراق، زيارة رعويّة أو دينيّة، كما أرادت بعضُ الأصوات الأصوليّة المتطَرِّفة إظهارَ الأمر، بل زيارة للعراق بكلّ مُكوّناته، وقد بادر الرجلُ الجميعَ باعتبارها زيارة حجٍّ روحيّ.
يملك العراقُ قيمةً تاريخيّةً وإيمانيّة كبيرة وعظيمة، إنّه أرض إبراهيم الخليل، أبي الآباء والأنبياء، المَظلّة التي يحتمي بها الشرقُ الأوسط في الآونة الاخيرة، من سلسال الدم وهجير الكراهيات ونيران التطَرُّف والتعصب. وقد دُهِشَ العالمُ من مشهد مدينة أور الكِلدانيّين، هناك حيث بدأ أبناءُ إبراهيم على قدم الأخُوّة من غير زَيْف.
سار فرنسيس وسط دروب النجف الأشرف، متثاقلاً على ساقه الواهنة، لكنّ روحه كانت ترفرف في السماء، والجميع من وراء الفضائِيّات التي تَبُثّ المَشاهد يتساءلون: مَن هذا القادم من بعيد ليزور المرجعيّة الشيعيّة، آية الله السيستاني، الرجل صاحب مشروع التلاقي الإنسانيّ والوجدانيّ، والذي دافع كثيرًا عن الأقلّيّات والمُضطهَدين في العراق طوال العقدَيْن الماضيَيْن.
رجلان في زمن صعب، فرنسيس والسيستاني، عَبَّرا عبر مشاعر واضحة، ونظرات عيون، ولغة الجسد، بأفضل من عشرات المقالات والدراسات التي يمكن أن يسطرها الكثيرون من الكُتّاب والمُؤلِّفين.
الذين قُدِّر لهم متابعةُ اللحظات الأخيرة للزيارة أدركوا أنّهم كانوا أمام رحلة عمليّة وترجمة فعليّة لكلّ ما جاء في وثيقة الأخُوّة الإنسانيّة التي وقعت في أبو ظبي في فبراير/ شباط من عام 2019.
على عتبات الطائرة وقبل مغادرته مطار بغداد، سألَ بطريركُ الكلدان الكاثوليك العراقيُّ، الكاردينال لويس ساكو البابا: هل أنت سعيدٌ بهذه الزيارة؟
في الجواب قال إنّ فرنسيس رفع عينَيْه إلى السماء متهلِّلاً بالقول:.. كثير جدًّا. ورُبَّما كانت هذه هي اللحظة التي وُلِدتْ فيها في عقل رجل الدين العراقيّ فكرةُ حاجة العراق إلى "ماجنا كارتا" جديدة للعراقيِّين.. ما الذي كان يعنيه بذلك؟
تُعَدّ الماجناكارتا أو الميثاقُ الأعظم أوَّلَ وثيقة حقوقيّة للحريات في العالم، وقد وُلِدتْ في إنجلترا للمَرَّة الأولى عام 1215، وتحتوي على أمور عِدّة منها مطالبة الملك بأن يمنح حُرّيّات معيَّنة، وأن يقبل بأن حُرّيّته لن تكون مطلقة، وأن يوافق علنًا على عدم معاقبة أيّ "رجل حُرّ"، إلا بموجب قانون الدولة، وهذا الحق ما زال قائمًا حَتّى اليوم. هل كان البطريرك ساكو يقصد بدءَ حياةٍ سياسيّة مغايرة في البلاد تقود إلى مصالحات وحُرّيّات، تُنهي حالة الصراع ونزيف الدم الذي طال، ومن ثَمَّ تَحَوَّل العراقُ إلى أرض حروب بالوكالة، فيما العراقيُّون يدفعون الثمن الفادح صباحَ مساءَ كلَّ يومٍ؟
يرى البطريركُ ساكو أنّه بعد زيارة البابا، حان الوقتُ لصياغة "وثيقة عُظْمى"، لأجل مستقبل العراق، وأن تشمل تلك الوثيقةُ احترامَ الحقوق والتنَوُّع، وضمان سيادة البلاد، والأكثر من ذلك بكثيرٍ ولادة عراق جديد، عراق يضمن عودة الأمجاد الحضاريّة لذاك البلد الذي تتقاذفه الأهواء.
أظهرتْ زيارةُ فرنسيس أنّ التعددُيّة والتنوع غنى كبير لأيّة أُمّة أو دولة، والعراق بضفيرته الحضارية الكِلْدانيّة، البابليّة، السومريّة، الآشوريّة، العربيّة، قادر على النهوض من جديد بكلِّ مُكَوِّناته، ومنها المُكَوّنُ المسيحيّ الوطنيّ، والذي يشعر بأنّه جزء أصيل من تلك الأرض الطّيّبة.
هنا رُبَّما يتوَجَّب علينا أن نُوَجّه تحِيَّةً حضاريَّةً وأخلاقِيَّة كبيرة للسيد مصطفى الكاظمي رئيس وزراء العراق، على تعليقه بأنّ العراقَ من غير المسيحيِّين لن يكون عراقًا كما كان من قبلُ، وهو تصريح يَنُمّ عن فهم دقيق جِدًّا لأبعاد ذلك البلد الاجتماعيّة، وكيف بنى طريقه لجهة الحضارة الأمميّة، حيث شارك فيها الجميعُ وقتَ الفَيْض، وها قد حانت لحظات الجدب. ومن هنا ينبغي أن يشارك الجميع كذلك.
في هذا الإطار، اقترح البطريرك ساكو على الرئيس برهم صالح تنظيمَ لقاء لمناقشة الزيارة ومعرفة كيفيّة الاستفادة منها، مضيفًا: ليس علينا الاستسلام الآن، بل العمل على أن يعود العراقُ مَرَّةً أخرى بلدَ الحضارات والأديان والتنوع.
هل ترك فرنسيس للعراقيّين بالفعل إرْثًا يمكن أن يراكموا عليه بناءً جديدًا في طريق ماجناكارتا بصبغةٍ عراقِيّة وملمحٍ وملمس عربيَّيْن شرق أوسطيَّيْن، مسيحيّ إسلاميّ معًا؟
من غير تهوين أو تهويل، يمكن القطعُ بأنّ فرنسيس والذي لا يملك فِرقًا عسكريّة، ولا لديه تفويض من مجلس الأمن الدوليّ، ترك للعراقيّين ما هو أثمن وأغلى وأهمّ، ترك لهم تفويضًا إنسانِيًّا وروحانيًّا، فيضه لا يُحَدّ ولا يُسَدّ، وذلك حين طلب إلى العراقيّين أن يكونوا أدوات لسلام الله ورحمته، صُنَّاعًا صبورين وشجعان لنظام اجتماعيّ جديد، كما أخبر العراقيين جميعًا مسلمين ومسيحِيّين، في عِظَة القُدَّاس الذي أقامه في إربيل.
صوت الأخُوّة في العراق تردّد مَرّة ثانية من قبل آية الله السيستاني، الرجل التسعينيّ الذي ترك انطباعًا كبيرًا وطَيّبًا في نفس فرنسيس، وذلك حين قال: "أنتم ونحن كُلّنا إخوة، أنتم جزءٌ مِنّا ونحن جزءّ منك، نحن إخوةّ حَتّى لو كُنّا مختلفين، ولهذا السبب نحن مَدْعُوّون للخروج من العقليّة الوضيعة المتمَثّلة بالخيانة والطائفيّة، وقبول بعضنا البعض بالحُبّ واحترام الاختلافات الغنِيّة في العقيدة والثقافة والعِرْق.
ما الذي يتوَجّبُ على العراقيّين فعلُه من أجل عراق جديد؟
في كلّ كلماته التي تركها فرنسيس ذكرى للعراقيّين، نجد الرجلَ ذا الثوب الأبيض مُركِّزًا على دعوة الشعب الحضاريّ العراقيّ، أن يُركِّز على ما يُوَحّد أكثر من التركيز على ما يُفَرِّق، وأن يحكم عقليّة الغفران والمسامحة على روح الانتقام والرغبة في الثأر، تلك التي ستمضي بالعراق الى غياهب الجُبِّ مَرَّةً أخرى.
حين يُصدِر الرئيسُ الأمريكيّ تصريحًا خاصًّا على إثر هذه الزيارة يهنئ فيه العراقيّين بنجاحهم في إظهار وجه بلادهم الحضاريّ، وحين يتحَدَّث شيخُ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بنفس المعنى والمبنى، وحين يغيب العنف والإرهاب عن العراق طوال أيَّام الرحلة التي تَحَوّل فيها العراقُ إلى قطعة من اليوتوبيا. يمكننا ساعتَها القول إنّ العراقيّين في طريقهم بالفعل لكتابة تاريخ جديد لبلادهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة