لم يستطع رئيس الوزراء العراقي أن يرى في هذه الجماهير سوى طَنِينَ كائنات تشوش على عمل الحكومة، وتريد أن تحرف المسار
بعد شهرين من احتشاد شوارع المدن العراقية من بغداد إلى البصرة بملايين المواطنين البالغين الراشدين؛ الذي يملكون حق التصويت، والمشاركة، ومنح الشرعية لمؤسسات الدولة جميعها. وبعد شهرين من سقوط الشهداء الذين تجاوز عددهم المئات الأربع، والجرحى الذين يعدون بالآلاف، لم يستطع كل ذلك أن يصل إلى أسماع الحكومة أو البرلمان. ولم يستطع رئيس الوزراء أن يرى في هذه الجماهير سوى طنين كائنات تشوش على عمل الحكومة، وتريد أن تحرف المسار، وتعمل لتفتيت البيت الحاكم.. إلخ.
ليست هناك حرية اختيار فردية، ولا ضمير فردي، ولا قرار فردي، فقد تنازل الأفراد طواعية عن حرية اختيارهم وضميرهم وقرارهم لشخص واحد هو المرجع أو المرشد، وهم اختاروا أن يكونوا صدى لصوته بالملايين.
وفي يوم الجمعة الماضي، مثل كل جمعة سابقة، خرج رجل معمم يتلو خطبة منسوبة لرجل معمم آخر، الأول معروف بأنه ناقل رسائل الثاني غير المرئي أو المشاهد، الذي لم يظهر للجمهور، ولم يخاطبهم، ولم يسمعوا منه حرفاً واحدًا، بل تأتي رسائله مع رسول، لا يعلم أحد مصدر الرسالة ولا المرسل، يكفي أن يقال إنها رسالة المرجع الأعلى. والمرجع الأعلى هذا مصطلح ديني، يقصد به الفقيه المجتهد الذي يعلو اجتهاده على كل اجتهاد في عصره، بحيث إذا قال هو صمت الآخرون، وإذا أفتي هو لا يفتي أحد بعده.
وما إن قرأ رسول المرجع الأعلى جزءاً من الرسالة، يبدو منه عدم رضاء المرجع الأعلى عن الحكومة العراقية، حتى خرج رئيس الوزراء يقدم استقالته على الفور، مصرحاً بأن تقديم الاستقالة جاء نتيجة لتوجيه المرجع الأعلى. نحن هنا أمام عالم جديد من الفكر والنظم السياسية، في هذا العالم لا قيمة لملايين المواطنين الذين يهتفون ليل نهار بضرورة استقالة الحكومة، ولا قيمة للأرواح التي راحت ضحية لهذا النداء؛ الذي يرفع الشرعية عن الحكومية.. وإنما القيمة كل القيمة هي لصوت واحد منقول من خلال رسالة ورقية يقرأها شخص آخر، هذا الصوت الواحد هو مصدر الشرعية الوحيد في هذا البلد في القرن الحادي والعشرين.
تعلمنا في الفكر السياسي والنظم السياسية أن هناك نوعا من النظم يسمى بالنظم "الثيوقراطية"، وهي تلك النظم التي يتولى فيها الحكم شخص يدعي أنه يملك الحق الإلهي في الحكم، وأن الإله هو من اختاره، وهو من يعزله، وهذا كان الحال في أوروبا في القرون الوسطى عندما حكم رجال الدين.. ولكن المفارقة أن هذا النموذج لا ينطبق على حالة العراق، لأن الحكام لا يدعون ذلك، فلم يحل الحق الإلهي في الحكومة، ولم تدع الحكومة تمثيل الحق الإلهي في الحكم، وإنما المفارقة الغريبة العجيبة، التي لم يعرفها التاريخ أن الحق الإلهي أصبح يمثل الشعب، وليس الحكومة، فصوت المرجع الديني حل محل صوت الشعب، والحكومة في ظاهرها مدنية، ولكن الشعب بالنسبة لها هو شخص واحد، وممثله هو المرجع الأعلى ونائبه، وباقي الشعب هو رجع صدى، أو صورة متكررة في ملايين المرايا البشرية للمرجع الأعلى.
الآن نحن أمام مرجعية دينية تحل محل الشعب، ولا تمارس الحكم مباشرة، كما في الحالة الإيرانية. ففي إيران المرجع الأعلى هو رأس النظام السياسي طبقا للدستور والقانون، فقد حل المرجع الأعلى الإيراني محل الشاه، أو الملك، أو السلطة العليا المطلقة في رمز السيادة. ولكن في العراق المرجع الأعلى أخذ دوراً آخر، فلم يدخل في دائرة الحكم، ولا يتولى منصباً سياسياً، وليس له وضع قانوني، أو دستوري، بل إنه ليس مواطناً عراقياً، ولا يحق له التصويت في الانتخابات في أي مستوى، حتى ولو كانت انتخابات مجلس قرية، لأنه لا يحمل جنسية العراق. ولكن الدور الجديد غير المسبوق للمرجع الأعلى أنه حل محل الشعب.
فعلى الرغم من أن دستور العراق الجديد الذي أعد أفكاره أستاذ القانون في جامعة هارفارد الدكتور نوح فيلدمان، ينص على أن الشعب هو مصدر السلطات، فإن الواقع أن المرجع الأعلى أصبح وكيل الشعب، وصار هو وصيًّا على الشعب، ووليا لأمره من موقع الرعاية الأبوية على القاصر، والغلام، وفاقد الأهلية. وهذا النموذج الجديد في الحكم ظهر في حالة العراق، ولكنه هو جوهر فكر جميع الأحزاب الدينية سواء أكانت شيعية أو سنية، جميعها تؤمن بالمرجع الأعلى، أو المرشد الأعلى.. إلخ. جميعها يحل فيها شخص محل الشعب، يقرر باسمه، ويتصرف بالنيابة عنه.
يحدث هذا الأمر عندما تصل هذه الأحزاب إلى السلطة، ويحدث كذلك وهي في طريقها للوصول إلى السلطة، في كل الحالات هناك صوت واحد له قيمة ووزن، ووجود، وهناك ملايين الأصداء التي لا تحمل قيمة، ولا وزناً، وليس لها وجود مستقل في ذاتها، وإنما وجودها نابع من وجود المصدر، وهو الصوت الأول الذي تأتي له الأصداء بنفس حروفه، وبنفس نغمته، وبنفس قوته.
ففي جميع الانتخابات التي تخوضها أو خاضتها جميع هذه التيارات يكون التصويت من قبل الملايين ليس سوى رجع صدى لصوت المرجع الأعلى، أو المرشد الأعلى. ليست هناك حرية اختيار فردية، ولا ضمير فردي، ولا قرار فردي، فقد تنازل الأفراد طواعية عن حرية اختيارهم، وضميرهم وقرارهم لشخص واحد هو المرجع أو المرشد، وهم اختاروا أن يكونوا صدى لصوته بالملايين.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة