مصابو احتجاجات العراق.. "همم" تؤجج لهيب "الثورة"
شاب لم يتجاوز الـ16 من عمره، خرج مثل الآلاف، ضمن موجة الاحتجاجات المندلعة، في العاصمة بغداد ليعود بشلل تمام بعد أن كسر عموده الفقري.
خرج مئات آلاف من العراقيين إلى الشوارع للمطالبة بتحسين مستوى العيش، لكن الآلاف منهم عادوا بندوب غائرة في الجسد والنفس، وبعجز جسدي دائم يثقل كاهل بلد يعدّ صاحب أكبر معدلات الإعاقة في العالم.
الشاب حمزة الذي لم يتجاوز الـ16 من عمره، خرج إلى الشارع مع موجة الاحتجاجات المندلعة، على مرحلتين، منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في العاصمة بغداد والعديد من المحافظات الجنوبية، رافعا الشعارات ذاتها المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية وطرد النفوذ الإيراني من بلادهم.
لكن تلك الروح المندفعة التي خرج بها "ثائرا"، انكسرت على صخور القمع الذي واجه به الأمن الاحتجاجات، وعاد بفجوة في ظهره وكسر في عموده الفقري وساق مشلولة، في وضع لا يختلف فيه عن الكثير من المحتجين ممن سقطوا أثناء مواجهات مع الأمن، سواء قتلى أو مصابين.
الغضب أقوى من الإعاقة
وبصوت واهن، يقول حمزة: "هذه تضحية من أجل العراق. ولو كان بإمكاني المشي، لعدت الآن إلى المظاهرات".
بدا الغضب الكامن في جسده الصغير أقوى من آلامه ومن جسده الملقى على سريره بثقل، ومن جرعات الدواء التي توقظ أوجاعه كلما لجأ إلى مسكّن للظفر بلحظات راحة.
كان يوما لا ينسى في حياته؛ ففي الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، أصيب نحو 20 متظاهرا بينهم حمزة، بالرصاص الحي في بغداد.
اخترقت الرصاصة معدته وخرجت من ظهره مخلفة فجوة كبيرة، فيما أصابت رصاصتان ساقيه.
والده أبو ليث قال وهو يروي تفاصيل اليوم الدامي: وصل حمزة إلى مستشفى قريب، وسال دمه بغزارة وقلبه يكاد يتوقف، حيث استخدم الأطباء جهاز الصدمات الكهربائية، وضخوا في شرايينه 4 وحدات دم وأدخلوه إلى غرفة العمليات.
"كان ميتا والأطباء أعادوه إلى الحياة".. هكذا لخص الوالد المكلوم وضع ابنه في ذلك اليوم.
وكشفت الأشعة المقطعية والتقارير الطبية التي أظهرتها عائلة حمزة، عن كسور متعددة في أسفل العمود الفقري؛ ما أدى إلى حدوث شلل في الساق اليمنى، ليتحول من شاب مفعم بالحماس إلى شخص يعيش حاليا على جرعات ثابتة من المخدر ومسكنات الألم، و"في بعض الأحيان يصرخ من الألم ليلا"، وفق والده.
وبحسب رئيس "تجمع المعوقين في العراق"، موفق الخفاجي، فإن "هناك تزايدا مستمرا لحالات الإعاقة بالبلاد (...) نخرج من أزمة وندخل في أخرى"، في إشارة إلى تاريخ العراق الطويل مع النزاعات والحروب.
وبحسب تعداد للتجمّع غير الحكومي، يبلغ عدد المعوقين في البلاد أكثر من 3 ملايين شخص، وهو ما يتقارب مع إحصاءات أخرى لمنظمات دولية وحقوقية، فيما تشير وزارة التخطيط العراقية إلى وجود أكثر من مليوني معوق في 13 محافظة من أصل 18.
وفي ظل غياب الأرقام الرسمية، يشير الخفاجي إلى أن فريقه يضطر إلى الاتصال بالمستشفيات والتواصل مع العائلات في بغداد والمدن الجنوبية، لتحديد عدد الأشخاص الذين تعرضوا لتشوهات أو عمليات بتر في الشهر الماضي.
ويعتبر أن رقم 3 آلاف شخص ليس إلا إحصاء تقديريا؛ إذ إن الرقم قد يكون أعلى من ذلك بكثير.
تهميش وخوف من الاعتقال
رغم أن العراق طرف في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن ذوي الاحتياجات الخاصة بهذا البلد يعانون من ضعف الخدمات الصحية، ونقص في فرص العمل، وتهميش اجتماعي.
ولتسليط الضوء على معاناتهم، نظم عدد من ذوي الاحتياجات الخاصة مسيرات في بغداد، في إطار حركة الاحتجاج الكبرى، مطالبين بتحسين الرعاية الحكومية لهم.
وقال الخفاجي إن "البنى التحتية في العراق غير ميسرة أصلا للأشخاص غير المعوقين. نحتاج لأكثر من حبر على ورق".
وقتل أكثر من 335 شخصا، وأصيب 15 ألفا على الأقل بجروح، منذ بدء الاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في وقت يخشى فيه الكثير من المصابين الذهاب إلى المستشفيات خوفا من الاعتقال؛ ما أدى إلى التهاب بعض الإصابات.
وبحصول الالتهابات، لم يجد الأطباء حلا لإنقاذ الكثير من المصابين سوى بتر أعضاء من الجسم وفق فرح، طالبة تعمل بشكل تطوعي في ساحة التحرير، المركز الرئيسي للمظاهرات وسط بغداد.
شظية أفقدتني البصر
علي عمشة (30 عاما)؛ ضحية أخرى لقمع الأمن العراقي.. كان يجلس في عيادة علاجية ميدانية في ساحة التحرير، وعلى خده الأيمن ضمادة تستعرض حكايته ليلة الـ24 من أكتوبر الماضي.
ففي تلك الليلة التي لا تنسى كما يقول، سمع طلقات نارية على جسر في بغداد، وشاهد مئات المحتجين يفرون مذعورين، أما هو فشعر بدوار ووقع أرضا بعد انفجار قنبلة صوتية بالقرب منه، واستعاد وعيه في مستشفى قريب بعد ساعة واحدة، لكنه لم يستطع سوى فتح عينه اليسرى، بعدما فقد الأخرى بشظية.
وذات الصوت القوي الذي لم تكسره خسارته، يقول: "إنهم يحاولون ردع المتظاهرين، ولكن الناس يزدادون حماسةً. الشعب العراقي تحمّل كل شيء. نحن ولدنا لنموت".
محصلة موت بتاريخ من الصراعات
عملية قمع الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي انطلقت في بغداد ومدن جنوبية عدة في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، أسفرت عن إصابة 3 آلاف شخص على الأقل بإعاقات دائمة، بحسب إحصاءات منظمة "تجمع المعوقين في العراق".
وتُعَد موجة الاحتجاجات الجارية في العراق ضد فساد الطبقة السياسية الأكبر والأكثر دموية في البلاد منذ عقود، وتستخدم فيها قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والمطاطي والقنابل الصوتية.
ووجهت منظمات حقوقية انتقادات للقوات الأمنية العراقية لإطلاقها قنابل الغاز المسيل للدموع من مسافة قريبة؛ ما أدى إلى وفيات وإصابات "مروعة"، إذ تخترق تلك القنابل الجماجم والصدور.
وللعراق تاريخ طويل من النزاعات الدامية، من حرب مع إيران بين عامي 1980 و1988، مرورا بالغزو الأمريكي للبلاد في 2003 لإطاحة نظام صدام حسين، ومعارك طائفية، وصولا إلى المعارك ضد "داعش"، ليفرز كل صراع محصلة هائلة من الضحايا؛ بينهم الآلاف ممن ينتهي بهم الأمر بإعاقات دائمة تطفئ نور الحياة بأعينهم.