لم تكن بغداد منحازة في تاريخها لمحور غير محيطها العربي، لولا وجود حكومة المالكي التي باعت نصف العراق أو ما يزيد على ذلك لإيران
المراقب لمباراة كرة القدم بين المنتخبين العراقي والسعودي قبل نحو أسبوعين أدرك تماماً عمق محبة العربي لشقيقه، ولولا تحريك السياسيين الطائفيين للشارع والاستفادة من بعض الأخطاء لما وصل الحال بالعراق إلى ما كان عليه خلال السنوات الماضية.
الصور التي جسّدها الحاضرون للمباراة في البصرة توحي بالكثير من التفاؤل بمستقبل العلاقة بين المملكة العربية السعودية بقادتها الجدد، والعراق الباحث عن حضنه العربي الدافئ، وتخبرنا بكل تأكيد بأن الطائفيين يستطيعون مرة أو اثنتين جرّ الشارع وراءهم نحو سلوكيات الحقد والكراهية، ولكنّهم لم ولن يستطيعوا أسر الشعب وفقا لأهوائهم بعد تبيان الحقيقة.
نعم عادت بغداد إلى شقيقاتها وإن بشكل تدريجي، وبدأت تغلق الباب على من كان يهذي كل يوم جمعة بأنّ إيران باتت تسيطر عليها، ولعلّ تكرار الحكومة العراقية وعلى لسان رئيسها حيدر العبادي بأنّ بلاده لن تخضع لسياسة المحاور في المنطقة إشارة مباشرة لطهران التي مكّنتها حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي من الهيمنة بشكل شبه كامل على القرار العراقي والزج بهذا البلد في أتون مشاريع طهران في المنطقة العربية.
انتشال العراق من الهيمنة الإيرانية خطوة في الاتجاه الصحيح وتُحسب الخطوة لكل الحكومات العربية التي شرعت أبوابها للمسؤولين العراقيين بمختلف انتماءاتهم للتباحث معهم في استراتيجية جديدة تقوم على أساس وحدة العرب تجاه المشاريع الرامية للانتقاص من تاريخهم والساعية لضرب الاستقرار في دولهم
في الحقيقة لم تكن بغداد منحازة في تاريخها لمحور غير محيطها العربي، لولا وجود حكومة المالكي التي باعت نصف العراق أو ما يزيد على ذلك لإيران، ووهبت النصف الآخر لتنظيم "داعش" المتطرف، حين أمر المالكي القطاعات العسكرية في الموصل بالانسحاب وعدم المواجهة العسكرية مع العناصر المتطرفة، والتي لم تكن أعدادها كبيرة مقارنة بعدد القوات العراقية في المحافظات الغربية.
سياسة المالكي ومن لفّ لفه لم تنجح بتغيير هوية العراق العربية، وهذا ما قاد العديد من الشخصيات العراقية -ولعلّ الغالب منها من المكّون الشيعي- للدعوة أكثر من مرة لمحاسبته وتجريمه على ما فعله بالعراقيين من تغذية النزاعات بينهم؛ مرة على أساس طائفي، وأخرى بنزاعه مع إقليم كردستان العراق على أساس قومي.
لا شك في أن رئيس الوزراء السابق يتحمل الكثير مما حل بالعراق، ولكن هل كان وحده المسؤول عن عزلة العراق والابتعاد به عن محيطه العربي؟
في الواقع ثمة أمور أخرى أسهمت وإن بطريقة غير مباشرة في جنوح العراق إلى إيران؛ نستعرض منها ثلاث محطات:
الأولى الفراغ العسكري الذي نتج عن حل الجيش العراقي وإبدال ذلك بمليشيات تابعة شكلا للحكومة العراقية، ولكنها تتلقى أوامرها من الولي الفقيه، الذي تعتقد بعصمته ورجاحة رأيه والارتباط به بشكل مباشر من دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة العراق وأهله.
الثانية مساندة بعض الشخصيات السياسية العراقية التي تقول إنّها تمثل المكوّن السني للمالكي أو ما اصطلح على تسميته "سنة المالكي"، وذلك لاعتبارات شخصية منصبية بعيدة عن مصالح المحافظات الغربية المتضرر الأكبر من حكم المالكي على مرِّ دورتين متتاليتين.
وتكمن المحطة الثالثة بغياب الدور العربي الفعّال تجاه الملف العراقي؛ فالسنوات الخمس عشرة الماضية شهدت انحسارا تاما لدور الجامعة العربية، مما أفسح المجال لإيران كي تصول وتجول في الساحة العراقية، متشاركة في ذلك مع الولايات المتحدة التي بدت في الظاهر منزعجة من تنامي الدور الإيراني في المنطقة العربية والعراق على وجه الخصوص، ولكن باطن الأمور أتى بعكس ذلك، وهذا ما أثبتته التقارير الاستخباراتية الغربية عن تواطؤ حكومة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما غير مرة مع الإيرانيين في كثير من الملفات ليس الملف العراقي الوحيد فيها (راجع ما كشفه موقع "واشنطن فري بيكون" في هذا الشأن).
انتشال العراق من الهيمنة الإيرانية خطوة في الاتجاه الصحيح وتُحسب الخطوة لكل الحكومات العربية التي شرعت أبوابها للمسؤولين العراقيين بمختلف انتماءاتهم؛ للتباحث معهم في استراتيجية جديدة تقوم على أساس وحدة العرب تجاه المشاريع الرامية للانتقاص من تاريخهم، والساعية لضرب الاستقرار في دولهم، وهذا ما يريح الشعوب العربية من محيطها إلى خليجها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة