بلور الثائرون في ساحات المدن العراقية حقائق لا بد من التوقف عندها، حقائق متعلقة تحديدا بنسف ما سعى إلى تكريسه نظام الحكم في بغداد
يتعذر اختزال إرادة ثوار العراق وتصميمهم على الذهاب بعيداً وربما إلى ما لا نهاية في سبيل تحقيق أهدافهم التي انتفضوا من أجلها بصيغة تقزيمية، مثل مطالب خدمية، أو تحسين مستوى معيشة، أو ترقيع ثغرة فساد هنا، وتضميد جرح هناك، بالمقابل يمكن فهم رفضهم للمرشح الحالي لمنصب رئيس الحكومة استناداً إلى الخطاب الموحد للثائرين المتقدم في مضمونه الوطني والسياسي على أركان السلطتين الحكومية-السياسية والمرجعية-المذهبية، فكلتا السلطتين تبدوان في الوعي الجمعي للثائرين، متماهيتان مع بعضهما إن لم تكونا متواطئتين وتلعبان لعبة مزدوجة، قوامها الأول الرهان على نفاد صبر الثائرين وتآكل إرادتهم، والثاني ترتيب وتهيئة الأسباب والأدوات لإجهاض الروح الثورية العامرة في نفوس الثوار من خلال التناوب بين التيارات، المليشياوية الطابع والثقافية، على زرع الفتن بين صفوف الثوار والتهديد والوعيد وصولاً إلى العنف المبرمج؛ حيث لا يفلت هذا العنف من عقاله فوراً، بل يتمدد ويتوسع بالتناسب طرداً كلما لامس الثوار، بإصرارهم ووعيهم لأهدافهم، كيانات الزعامات الخفية التي تستشعر خطر وصول الثورة إلى مبتغاها.
مفهوم الدولة الحديثة يقابله تعبير ثنائية المدينة الدولة-الدولة المدينة، ثنائية تقوم أساساً على مبدأ التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية المصانة، حقوقاً وواجبات، بالدستور والحرية، وهو ما يسعى ثوار العراق إلى تحقيقه بعد أن أحدثوا قطيعة مع الأيديولوجيات المضلّلة بكل صيغها
بلور الثائرون في ساحات المدن العراقية حقائق لا بد من التوقف عندها، حقائق متعلقة تحديداً بنسف ما سعى إلى تكريسه نظام الحكم في بغداد من أن ثورة الناس ضده ما هي إلا ثورة جياع وحاجات معيشية، وإلى ما هنالك من توصيفات تعج بها قواميس الأنظمة الاستبدادية أينما حلت.
* الحقيقة الأولى تمثلت بتجاوز التقسيم الطائفي للإنسان العراقي من حيث جوهره الإنساني ومن حيث وعيه الوطني، تجلى ذلك في وحدة الخطاب الموجه ضد نمط الحكم والمحاصصة الطائفية-العرقية الملتبسة في شكلها السلطوي.
* الحقيقة الثانية أفصحت عن وعي الثائرين لمفهوم الدولة المنشودة التي خرجوا لأجلها، وعيٌ امتزج فيه المطلب الاجتماعي بالمطلب الاقتصادي كانعكاس لوعي سياسي كامن وليس مفارقاً له أو بمعزل عنه، بل متبلور، ومعياره الأهم ظاهرة الدعم الطلابي بمستوياته الجامعية وما قبل الجامعية للثائرين ولساحات تجمعهم في غير مدينة عراقية في دلالة رمزية عميقة لوحدة الهدف كما وحدة المسار.
* الحقيقة الثالثة كشفت استلاب نظام الحكم في بغداد وارتهانه لإيران، ارتهان أدى إلى عدم اعتماد حكومة بغداد حتى الآن خيارات حاسمة لشكل الدولة العراقية ما بعد 2003 من حيث الدور والعلاقات الخارجية، ومن حيث الوظائف السياسية والاجتماعية الواجب تأديتها داخلياً وإقليمياً ودولياً، وهي حقيقة تمثَّلها ثوار العراق في مواقفهم ومطالبهم الرافضة لهذا الارتهان منذ انطلاق انتفاضتهم.
* الحقيقة الرابعة أن الثورة أماطت اللثام عن أن السلطة، بل السلطات الحقيقية الفاعلة في شؤون البلاد والعباد في العراق، هي المليشيات وزعاماتها التي تنهل من حاضنة واحدة هي إيران، فكراً وثقافة ونهجاً وأسلوباً وأهدافاً، وما أولئك الموجودون في السلطة إلا واجهات لسلطات الظل تلك.
* الحقيقة الخامسة أكدت أن زمن حكم الأيديولوجيات عامة والسياسية منها بشكل خاص وكذلك الحزبية قد انتهى، سواء أكان لبوسها العمامة أم جاءت بربطة عنق، وتلاشيها واندثارها الحتمي، بعد استثمارها على مدار عقود من الزمن لصالح أنظمة الاستبداد كما أثبتت التجارب في منطقتنا وفي بعض المناطق من العالم، يؤسس لنهوض "الإنسان السياسي" الذي يستثمر وعيه التاريخي المتراكم في بناء دولة المواطنة بمفهومها المدني على أسس العدالة والقانون وتداول السلطة وتكافؤ الفرص وطي صفحة القهر والإكراه.
السلطة العراقية الرسمية الحاكمة برمتها ليست معممة ولا ترتدي لباساً دينياً في رمزيته، إلا أنها في مضمونها، وهذه هي المفارقة، نتاجٌ وصدى لدوائر الدين ورجالاته بمختلف مذاهبهم وتعدد ولاءاتهم الخارجية ببعدها الديني المذهبي، فلا هم اتحدوا مع مظاهر مرجعياتهم الدينية من حيث الشكل رغم انغماسهم الكامل معهم، ولا هم تمكنوا من صياغة واقع جديد لبُنى السلطة وشكلها وممارستها الفعلية لوظائفها السياسية والاجتماعية، فسقطوا في الحالتين معاً، وظلوا أسرى مرجعياتهم وولاءاتها.
مفهوم الدولة الحديثة يقابله تعبير ثنائية المدينة الدولة-الدولة المدينة، ثنائية تقوم أساساً على مبدأ التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية المصانة، حقوقاً وواجبات، بالدستور والحرية، وهو ما يسعى ثوار العراق إلى تحقيقه بعد أن أحدثوا قطيعة مع الأيديولوجيات المضلّلة بكل صيغها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة