هنا وضعت جميع هذه الكيانات الكبيرة من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي وغيرهما موضع اختبار حقيقي في مواجهة أزمة غير مسبوقة
ظل الباحثون في العلوم الاجتماعية عامة، والسياسية خاصة، يرددون لفترة طويلة من الزمن أن مستقبل العالم مرهون بالاندماج في كيانات كبيرة، وأنه لا مكان في هذا العالم للدول المنفردة، أو الكيانات الصغيرة، وأن التجربة الأوروبية، أو تجربة دول الآسيان نموذج متميز، لا بد من الاقتداء به وتكراره، وأن هذه التجمعات الاقتصادية والسياسية تشكل مستقبل العالم، وترسم خريطة القوى التي سوف تقوده.
كانت هذه جميعها كلها تعميمات تنطلق من حقائق اقتصادية وتجارية واستثمارية ومالية، وفي بعض جوانبها تشكلها المواقف السياسية المتعلقة بالغير؛ والتي ترسم خريطة المصالح الدولية، أي أن هذه التعميمات، والخلاصات كانت جميعها تتعلق بالأحوال الطبيعية، وبالجوانب الإيجابية، ولم يحدث أن تم اختبارها حتى جاءت جائحة فيروس كورونا.
هذا الواقع الجديد سوف يضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك، فبعد انتهاء هذه الأزمة سوف يتساءل الإنسان الأوروبي في الدول التي قدمت تضحيات بشرية كبيرة عن جدوى الانتماء للاتحاد الأوروبي؛ إن لم يكن قادرا على إنقاذ أرواح البشر في أزمة صحية مثل أزمة كورونا.هنا وضعت جميع هذه الكيانات الكبيرة من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي وغيرهما موضع اختبار حقيقي في مواجهة أزمة غير مسبوقة؛ تتعلق بحياة الإنسان والمجتمع؛ خصوصا الفئة الأضعف فيه من كبار السن والمرضى، وهنا لم يظهر أي جهد جماعي، بل على العكس كانت الجهود مشتتة، وأحيانا يسودها عدم الثقة والتنافس، والنظرة الاستعلائية؛ التي تجعل من الدول التي انتشر فيها المرض أدنى مستوى، أو أقل تطوراً، أو أضعف إدارة... إلخ.
وتم التعامل مع الأزمة بمنطق جحا الذي يقول: طالما أن النار لم تمس ثوبي فلا يعنيني إطفاؤها، وكان من أكثر النماذج وضوحاً على هذه الحالة التنافس الذي حدث بين حكام الولايات الأمريكية الخمسين في التعاقد مع الشركات التي تنتج المواد الصحية للنظافة والوقاية من الفيروس، كل واحد من حكام الولايات يريد الحصول على الحصة الكاملة بغض النظر عن مدى انتشار الوباء في ولايته.
وعلى المستوى الأوروبي لم ير المواطن الأوروبي أي دور للاتحاد الأوروبي في مواجهة هذه الأزمة التي تهدد بصورة جوهرية مجتمعات مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وسوف تنتشر في الدول الأوروبية الأضعف في شرق وجنوب أوروبا، فلم يظهر أي دور للاتحاد الأوروبي في أوروبا، ولم يظهر أي دور لأي منظمة أو تجمع إقليمي في بقعة من بقاع الأرض.
وفي المقابل برزت أدوار لدول بعينها قامت بما كان ينبغي أن تقوم به المنظمات الدولية أو التجمعات الإقليمية، فعلى المستوى الأوروبي قامت روسيا بدور أكبر بكثير من جميع دول الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلنطي في مساعدة إيطاليا على التحكم في الانتشار المهول للفيروس الذي كاد أن يتحول إلى طاعون من طواعين العصور الوسطى، فأرسلت أكثر من 15 طائرة شحن حربية محملة بالمعدات والأطباء، وذلك على الرغم من أن روسيا ذاتها تخضع لعقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي بما فيه إيطاليا.
كذلك قدمت كل من الصين وكوبا اللتين تنتميان بدرجة أو بأخرى للعالم الثالث، وتخضعان كذلك لنوعيات مختلفة من العقوبات الغربية، يد العون لإيطاليا، بصورة تستوجب إعادة التفكير في المعايير الدولية المتعلقة بتصنيف الدول، وفرض عقوبات عليها بناء على قيم ومحددات تحددها الأطراف الأقوى؛ التي اختفت قوتها وقت الأزمات الكبرى.
وهذا الواقع الجديد سوف يضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك، فبعد انتهاء هذه الأزمة سوف يتساءل الإنسان الأوروبي في الدول التي قدمت تضحيات بشرية كبيرة عن جدوى الانتماء للاتحاد الأوروبي؛ إن لم يكن قادرا على إنقاذ أرواح البشر في أزمة صحية مثل أزمة كورونا، في مقابل ما قامت به روسيا الاتحادية التي يصنفها الاتحاد الأوروبي ذاته عدوا وجودياً.
وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي قامت دولة الإمارات بدور متميز سواء على المستوى العالمي حيث كانت أول من قدم الدعم للصين في محنتها مع فيروس كورونا، كما أن القيادة الإماراتية تعالت على كل الخلافات والصراعات السياسية سواء بتقديم الدعم الطبي السريع لإيران، وتجاوزت حالة الانغلاق العربي غير المبرر مع الجمهورية العربية السورية، بالتواصل المباشر من القيادة الإماراتية مع القيادة السورية لتأكيد الاستعداد الكامل لدعم سورية في مواجهة هذا الوباء.
وعلى الجانب الآخر كان هناك في العالم العربي والإسلامي من حاول توظيف هذه الأزمة الصحية توظيفا سياسيا ضد مصر، فقد استغلت كل من دولة قطر وتركيا هذه الأزمة لمحاولة النيل من مصر، وإشاعة الفوضى فيها، وذلك من خلال توظيف الإعلام الموجه الذي يبث الدعاية السوداء والإشاعات من الدوحة وإسطنبول لإحداث حالة ارتباك في مصر لتحقيق أغراض سياسية.
في مواجهة ذلك سوف يتساءل الإنسان العربي والمسلم بعد الخروج من هذه الأزمة عن جدوى، وقيمة المنظمات الإقليمية التي تنتمي إليها دولته، لأنها وقفت عاجزة عن تقديم العون، والمساعدة، ووقفت عاجزة كذلك عن ضبط سلوكيات أعضائها، بحيث لا تنزلق بعض الدول الأعضاء فيها إلى مستويات دنيا على سلم الأخلاق الإنسانية، وتستغل أزمة صحية خطيرة تصيب البسطاء من الناس، وتوظفها توظيفا سياسيا غاية في الانتهازية الرخيصة.
إن مستقبل الكيانات الدولية والإقليمية الكبرى سيكون على المحك بعد انقشاع جائحة كورونا، وسيعود الاهتمام بالكيانات الصغرى على مستوى الدولة، أو حتى مكونات الدولة، ووحداتها الإدارية، لأن هذا هو المنطلق الحقيقي لتحقيق احتياجات الإنسان، والحفاظ على وجود وسعادة الإنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة