تستند برامج صندوق النقد الدولي التي يتم الاتفاق عليها مع البلدان الأعضاء إلى ما يعرف بـ "توافق واشنطن"
وفقا لتقرير نشر بصحيفة "فايننشال تايمز" تشير الملاحظات التي أبداها مؤخرا عدد من المسؤولين في صندوق النقد الدولي إلى أن الصندوق قد يخفض من الاعتماد على روشتته المستندة إلى الأفكار النيوليبرالية باعتبارها صالحة لكافة الاقتصادات النامية التي تعاني من صعوبات وتلجأ لتوقيع اتفاق مع الصندوق لمعالجة الاختلالات الاقتصادية التي تمر بها.
هناك الآن اعتراف داخل صندوق النقد الدولي بأن تحرير تدفقات رأس المال لها آثار سيئة. وهناك إضافة إلى ذلك في الوقت الراهن مخاوف من أن تدفقات رأس المال إلى الاقتصادات الناشئة قد تعرضها لخطر انتشار عدوى التضخم المنخفض في البلدان المتقدمة، حيث أصبح التضخم المنخفض سمة من سمات اقتصاداتها
وتستند برامج صندوق النقد الدولي التي يتم الاتفاق عليها مع البلدان الأعضاء إلى ما يعرف بـ"توافق واشنطن"، وهذا التوافق هو عبارة عن مجموعة وجهات نظر حول استراتيجيات التنمية، وكان "توافق واشنطن يعد ردا على الدور الرئيسي الذي كانت تقوم به الدولة في الدول النامية في المبادرة بالتصنيع عبر سياسة إحلال الواردات خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي".
فقد نص "توافق واشنطن" على أن هذا العصر المستند لتدخل الدولة قد ولى. وتحتوي برامج الصندوق على ثلاث أفكار رئيسية كبرى: الفكرة الأولى هي التمسك باقتصاد السوق وفقا لصيغته النيوليبرالية التي يميل بعض الاقتصاديين إلى توصيفها على أنها "أصولية السوق" حيث الإيمان المطلق بأن الأسواق تصحح ذاتها وأنه ينبغي عدم التدخل في عملها على الإطلاق على الرغم من أوجه عديدة معروفة لقصور هذه الأسواق.
والفكرة الثانية هي الانفتاح الاقتصادي على العالم، والفكرة الثالثة هي انضباط الاقتصاد الكلي.
ويطالب البرنامج المعياري لصندوق النقد عادة بعشرة إصلاحات، هي: الانضباط المالي بإزالة الدعم من الموازنة العامة للدولة، وتغيير أولويات الإنفاق العام بالانسحاب من الدعم إلى زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم، والإصلاح الضريبي من خلال توسيع القاعدة الضريبية وخفض مستويات الضريبة، والعمل على وجود أسعار فائدة موجبة، وذلك عبر آليات السوق، وضرورة توفر أسعار صرف توازنية يتم تحديدها في السوق الحر، بحيث تضمن التنافسية، وتحرير التجارة وانفتاح الاقتصاد، وتحرير تدفقات رأس المال، وعدم فرض أية قيود أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخصخصة الشركات العامة، وتحرير الأنشطة الاقتصادية من القيود والضوابط التنظيمية الحكومية، وتقديم ضمانات قوية لحقوق الملكية.
ويمكن تنظيم النقاط العشرة السابقة تحت مجموعتين رئيسيتين: فمن ناحية أولى هناك تدعيم الاستقرار الاقتصادي من خلال الهيكلة المالية واتباع آليات السوق بصورة رئيسية، وهناك من ناحية ثانية خفض كبير في دور الدولة في الاقتصاد، وكان التقشف دائما هو العنوان الأساسي في برامج الصندوق في الاقتصادات التي تمر بمصاعب اقتصادية.
والواقع أنه رغم أن الدافع لصياغة توافق واشنطن بالصورة التي صيغ بها كان دافعا ظرفيا تمثل في مرور بلدان أمريكا اللاتينية خلال ثمانينيات القرن الماضي بمشكلات اقتصادية ضخمة، كان من أهمها التضخم المفرط ومشكلة الديون الخارجية، إلا أن هناك روشتة موحدة فرضت على جميع البلدان النامية من قبل صندوق النقد الدولي، ومهما كانت أوجاعها الاقتصادية تختلف عن أوجاع قائمة بلدان أمريكا اللاتينية.
وكان هم هذه الروشتة هو تحقيق انفتاح اقتصادات الدول النامية على الاقتصاد العالمي، وتحقيق الانضباط المالي خاصة تحقيق انضباط الأسعار بسبب التضخم المفرط.
وبينما لا يدعو أي اقتصادي بالطبع إلى عدم استقرار الاقتصاد الكلي، لكن ما يشكل سياسة اقتصاد كلي "جيدة" ظل محل تنازع في الآراء. إذ يدعو البعض إلى النظر لاستقرار الاقتصاد الكلي على أنه يشمل ليس فقط استقرار الأسعار وسياسات مالية سليمة، ولكن أيضًا اقتصادا حقيقيا مستقرا.
فقد كان من الطبيعي عام 1990، على سبيل المثال، بعد سلسلة حلقات التضخم والتضخم المفرط الذي شهدته بلدان أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، التركيز على استقرار الأسعار.
ولكن الاستقرار الحقيقي بمعنى الاهتمام بالتغير في معدلات البطالة أو النمو الاقتصادي الحقيقي يعد مماثلًا في الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية. فاستقرار الأسعار وحده، ربما لا يؤدي إلى النمو أو التشغيل الكامل، كما أن التعصب والحماسة الزائدة في الدفع من أجل استقرار الأسعار ربما يؤدي إلى خنق النمو مما يؤدي إلى مستويات مرتفعة من البطالة. ويركز بالمقابل بعض الاقتصاديين على أهمية تطوير إطار للاقتصاد الكلي يتضمن دورا نشطا لسياسات حكومية مضادة للدورة الاقتصادية، أي تدخل بزيادة الإنفاق الحكومي في وقت الركود والعكس بالعكس، إلى جانب إدارة فنية جيدة لحساب رأس المال بما في ذلك قواعد وقوانين حكومية وقواعد للتحوط من أية تغيرات سلبية.
مثل "توافق واشنطن" إذًا، وبطرق عدة، توافقًا بين النيوليبرالية الاقتصادية والعولمة وليس توافقًا من أجل نمو يتيح المساواة وتنمية مستدامة، فـ"توافق واشنطن" همه الأول هو فتح البلدان النامية، التي يوقع الصندوق معها خطاب نوايا "للإصلاح الاقتصادي"، أمام العالم الخارجي، إلى جانب ضمان قدرتها على الانتظام في سداد ديونها الخارجية.
وكما ثبت تاريخيًّا في العديد من التجارب فلا يمكن لمجتمع متأخر اقتصاديًّا أن يراهن على السياسات النيوليبرالية باعتبارها تشكل حلًا ملائمًا لما يعانيه من مشكلات، فهذه في الواقع رفاهية ربما تمتلكها الدول ذات الأبنية الاقتصادية الناضجة التي مرت بفترة طويلة من النمو، والتي أضحت هياكلها الاقتصادية تتمتع بدرجة عالية من النضج والتنوع والترابط العضوي.
علاوة بالطبع على أنها الدول المهيمنة فعليًّا على ساحة النظام الاقتصادي الدولي. بل أن بعض هذه البلدان ذات الهياكل الناضجة تؤثر حكوماتها عن طريق سياساتها الاقتصادية في توجهاتها التنموية وتميل لمعارضة الانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي إذا ما رأت أن ذلك يحقق مصالحها أكثر. ولنا عبرة فيما تنتهجه الآن الإدارة الأمريكية من سياسات تجارية.
ولا يمكن في الحقيقة لأي بلد متأخر اقتصاديًّا إذا ما أراد معالجة مشكلاته، والمضي في طريق التطور والتقدم الاقتصادي أن يفعل ذلك دون وضوح كافٍ حول توجه الاقتصاد، أي دون أن يحدد ما هي استراتيجيته للتنمية أو ما هو خياره التنموي. وتصبح تلك القضية قضية غاية في الأهمية خاصة عند مفاصل زمنية محددة.
والحقيقة إلى جانب ذلك ينبغي أيضًا الالتفات إلى أنه لم تتحقق معدلات نمو مرتفعة مطردة في البلدان التي التزمت بروشتة صندوق النقد الدولي، بل أنه حتى في الدول التي بدا فيها أن سياسات "توافق واشنطن" قد أدت إلى حفز النمو، فإن مثل هذا النمو عادة لم يصاحبه خفض ملموس للفقر.
ووفقا لتقرير "الفايننشال تايمز" المشار إليه في بداية المقال فهناك الآن اعتراف داخل صندوق النقد الدولي بأن تحرير تدفقات رأس المال لها آثار سيئة. وهناك إضافة إلى ذلك في الوقت الراهن مخاوف من أن تدفقات رأس المال إلى الاقتصادات الناشئة قد تعرضها لخطر انتشار عدوى التضخم المنخفض في البلدان المتقدمة، حيث أصبح التضخم المنخفض سمة من سمات اقتصاداتها.
وفي هذا الصدد يقول نائب المدير العام لصندوق النقد "ديفيد ليبتون" إن انتقال ظاهرة التضخم المنخفض إلى الدول النامية يمكن أن يتسبب في حالة من الركود. أضف إلى ذلك أن تراجع تكاليف الاقتراض ربما تشجع الدول النامية على المزيد من الاقتراض وهو ما يزيد من عبء الديون في تلك الدول.
ويرى "ليبتون" و"جيتا جوبيناث" كبيرة الاقتصاديين في الصندوق أن بإمكان الحكومات في الدول النامية استخدام التدخل في سوق الصرف ووضع ضوابط على حركة رأس المال للتخفيف من أثر التدفقات الرأسمالية المفرطة. وبدلا من الإبقاء على نظام صرف متحرر، فإن التدخل في سوق العملات يمكن أن يكون أمرا مرغوبا فيه في الأوقات الصعبة.
وللحد من الإفراط في الاقتراض ترى "جوبيناث" أن على الحكومات فرض ضوابط على حركة رأس المال في الأوقات العادية، وهو ما يعني أن الصندوق بات الآن يدعم تدخل الدولة ليس فقط في الحالات الطارئة، وإنما بوصف ذلك أداة طبيعية من أدوات السياسة الاقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة