في تاريخ الدولة الإسلامية ظهر عدد من المترجمين النصارى الذين كانوا يجيدون اللغة الآرامية أو السريانية واليونانية والعربية.
أروع وأبدع بل أنفع وأرفع ما يمكن للأجيال المعاصرة في عالمنا العربي أن تطلع عليه هو حالة التعددية والحوار التي قادت الدولة الإسلامية لمراتب عالية في الماضي، عسى أن يكون بين جنبات الرؤية ما يزخم الحاضر الآني بموجات من الأمل والتفاؤل الخلاق.
العالم على أبواب حقبة جديدة من إعادة ترتيب الأوليات والأولويات عالم جديد لا بد له أن ينبثق من رحم الفوضى المعاصرة، والفرصة ذهبية أمام العرب والمسلمين، والطريق واضح المعالم وعليهم الاختيار، السير معاً في إنسانية واحدة تجمع، أو البقاء في عمق الجب التاريخي المظلم لعقود أخرى.
لعبت الحضارة العربية دوراً رائداً وخلاقاً في استنارة أوروبا، هذه حقيقة لا مراء فيها، غير أن هناك حلقة لا بد من الوقوف أمامها، وتأمل المشهد جلياً، فقد كان لا بد بداية من ترجمة العلوم والآداب والمعارف اليونانية إلى العربية، ومن بعد الترجمة إلى اللاتينية لتصل إلى الأوروبيين، غير أن الترجمة هذه لم يكن لها أن تقوم دون مترجمين، وإن اختلفوا عقائدياً، لكن مظلة التعددية والحوار بينهم وبين المسلمين حكاماً ومحكومين كانت تتجاوز الخلافات اللاهوتية أو الفقهية.
ففي تاريخ الدولة الإسلامية ظهر عدد من المترجمين النصارى الذين كانوا يجيدون اللغة الآرامية أو السريانية واليونانية والعربية، فكان لهم دور كبير في مجال الترجمة، ففي خلافة المأمون عرفت حركة الترجمة إلى العربية ذروتها، وكانت للخليفة عدة اتصالات بقياصرة الروم ليطلب فهم مما يطلب أن يأذنوا لبعثة عربية بالسفر إلى بلاد الروم لجميع المخطوطات في علوم الطبيعة والهندسة والطب، وأن يبعثوا إلى بغداد عالماً بالرياضيات يونانياً مشهوراً اسمه "لادون".
في هذا السياق المعرفي التاريخي يمكن للمرء القطع بأن الخليفة المأمون هو مؤسس معهد الترجمة العظيم الذي يعرف ببيت الحكمة، والذي أنيطت إدارته لسهل بن هارون، كان معظم المترجمين في البداية من النصارى الملكانيين واليعاقبة والنساطرة خصوصاً، بفضل هولاء انتقلت علوم اليونان إلى العرب تم عادت بواسطتهم إلى أوروبا، وقد بقيت بعض أسماء الذين ترجموا للمأمون، فمن النصارى الحجاج بن مطر، وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي في ترجمه كتب الطب، ويحيى بن البطريق الذي كان في جملة الحسن بن سهل.
وكان حنين بن إسحاق النصراني العبادي (ت 264هـ/ 873م) من المقربين إلى الخليفة المتوكل العباسي، ويترجم له الكتاب فيعطيه بوزنه ذهباً، وكان أهل طائفته يحسدونه لحظوته عند الخليفة، خصوصاً (الطيفورى النصراني) فحكم عليه مجلس الأساقفة بحرمانه من الكنيسة، فمات غماً من اضطهاد طائفته.
ولعل السؤال الجوهري: "هل كان لتقوم تلك الترجمات على يد عدد وافر من المترجمين والعلماء المسيحيين، لولا وجود معين من التعددية الحضارية، والآفاق الحوارية من قبل الخلفاء المسلمين، أصحاب العقلية العلمية والتعايشية المفتحة، ورغبتهم في جعل المعارف الإنسانية مخزوناً للإنسانية بأكملها، يأخذ منه الجميع حال الجدب، بعد أن صب فيه الكل ما فاض عن حاجتهم في أوقات الفيض؟".
ربما يقودنا الجواب إلى إدراك الأسباب التي جعلت سبيل الحضارة ينقطع عن العالمين العربي والإسلامي بدءاً من القرن الثالث عشر الميلادي حتى الساعة، فقد غاب الحوار واختفى الجوار، وتلاشت التعددية، وحلت محلهما القبلية الطائفية، فيما تبخر الحوار الثري الذي كان علامة دافعة على تميز تلك الحضارة ورفعتها.
يمكن الجزم بأنه لا حوار إلا بين المغايرين، ومفهوم الحوار قائم على مفهوم عام للغيرية، وهي أساس الحوار وقاعدته الملزمة، إن هي غابت تعثر، بل استحال إلى غير الممكن، وإن وجدت أوجدته بالقوة لا بالفعل، ورب قائل هنا وبالرجوع إلى الجدلية الهيغلية أن مبدأ الصدام هو في الواقع محرك التاريخ، لكن ما من دليل حاسم على أن الصراع مع الآخر حتى انكسار واحد من اثنين هو مقصد هيغل، فنظرية العبد والسيد لا تقول بإلغاء أي طرف من الطرفين للآخر، وإن تفاوتت موازين القوى، لأن في الحفاظ على الآخر حاجة حيوية للإبقاء على الذات في ما هي عليه وليس بقاء الأنا إلا من بقاء الآخر.
والآخر يعني بالضرورة التاريخية الحوار، فلا آخر إن كان معزولاً أو مستبعداً، وفي حالة العالم العربي المعاصر يبقى الحوار فرض عين حال أردنا السعي في إطار الكوكبية (العولمة) التي باتت شرطاً للدخول في سياقات عالم القرن الحادي والعشرين.
لم يعد العالم جزراً منفصلة بعضها عن البعض، ولا هو كما كان الحال في زمن الإمبراطوريات القديمة، القائمة كل منها بعيداً جداً عن الآخر، وتستطيع أن تقيم حاجاتها بمعزل عن الغير، والذي دائماً ما كان الخصم والعدو.
في عالمنا المعاصر نشأت مجتمعات متعددة الثقافات، تكافلية تعددية في نواح شتى متعددة، وبالتالي فان مثل هذه المجتمعات يحتاج بشدة إلى الحوار من أجل التعايش والبناء والازدهار، ودون التفاهم المتبادل لن تتمكن شعوب العالم من القضاء على ما يواجهها من المشاكل التي لا حصر لها من فقر وجهل وفرقة وخراب وغيرها، مما يهدد بالانهيار، فمن دون الحوار المتبادل والتفاهم بين شعوب العالم، باختصار شديد سيكون من الصعب، بل من المستحيل تأسيس قواعد للسلام العالمي.
ولعل السؤال الذي يمكننا من ضبط المسافات في المؤامة بين الانتقال إلى حالة التعددية والانسداد الحضاري الذي جرى لعقود طويلة، هو كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يعتبر قضية التعددية والحوار مع الآخر قضية قرآنية في العمق، وأنها ليست مسألة مستحدثة يراد بها زعزعة الإيمان والدين واليقين، كما يرى بعض أصحاب نظرية التلاقي والانثقاف، وما يتتبعها من حوار بين أتباع الأديان التوحيدية بنوع خاص؟
لن تتمكن الشعوب العربية من دخول عالم الحداثة والعصرانية بعقل منفتح وروح وثابة، للعيش المشترك مع العالم الخارجي، إلا من خلال تعددية حقيقية إنسانية، تعددية صادقة غير زائفة، وحوار متكافئ فعال، فالحوار بنوع خاص يؤكد دوماً نقاط التلاقي بين أصحاب الأديان والثقافات المختلفة حول العالم.
ويبقى الحوار الذي يؤدي إلى العيش المشترك قائماً على:
- حوار الحياة: حيث يعمل الناس على أن يعيشوا بروح الانفتاح وحسن الجوار، واقتسام الأفراح ومشاركة الأتراح، ومشاركة المشاغل الإنسانية.
- حوار الأعمال: حيث التعاون بين البشر من أجل التنمية الشاملة والكاملة، فكراً وجسداً، تنمية مستدامة تحرر البشر من قبضة الظلم الأدبي والمادي، والجوع الروحي أولاً والجسدي ثانياً، حوار أعمال يعظم من قيمة الإنسان الذي استخلفه الله في الكون، في حين قلصت من كيانه وكرامته الرأسمالية المتوحشة.
إن مثل هذا العيش المشترك من منطلقات التعددية والحوار كما أسلفنا جرت به وقائع الماضي على الأرض في ظل الدولة الإسلامية، فكانت الممارسة العملية له، انطلاقاً من أن الإسلام حمل لواء العيش والتعايش السلمي المشترك بين الأديان حتى "عندما لا يجدي الحوار في أمور العقيدة، وحتى لا يتحول الحوار إلى جدال متوتر ينسف كل أجواء التعايش من أساسها".
العالم على أبواب حقبة جديدة من إعادة ترتيب الأوليات والأولويات عالم جديد لا بد له أن ينبثق من رحم الفوضى المعاصرة، والفرصة ذهبية أمام العرب والمسلمين، والطريق واضح المعالم وعليهم الاختيار، السير معاً في إنسانية واحدة تجمع، أو البقاء في عمق الجب التاريخي المظلم لعقود أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة