من المتعارف عليه أن المنطقة "أو النقطة أو الزاوية" العمياء هي نقطة في العين تخلو من أي مستقبلات للضوء.
لذا فالجزء المقابل لها في مجال الرؤية يكون محجوبًا، إلا أن أدمغتنا تقوم باستكمال هذا الجزء المفقود من الرؤية من خلال المعلومات القادمة من العين الأخرى ومن المحيط المباشر المرئي، حتى إننا لا ندرك حسيًا وجود هذه النقطة العمياء ولا عدم صحة المعلومات التي تم إكمالها. ومن المعروف أيضا أن الكثير من الحوادث يتسبب فيها ما يسمى المنطقة العمياء، وهي تلك المساحات التي لا يمكن لسائق السيارة التأكد من خلوها من السيارات أو المارة، في أثناء تغييره مسار السيارة بالاعتماد فقط على المرايا الجانبية والخلفية.
بنظرة فاحصة لخريطة الدراسات حول الإسلاموية في الأكاديميا الغربية، نستطيع القول بأنها تمثل منطقة عمياء مدهشة؛ حيث إن جل الدارسات الغربية لا تعتمد إلا على أوهام، ولا تنتج بالتبعية غير أوهام، وبمرور الوقت، أصبحت الدراسات الغربية المتعلقة بالإسلاموية (والتي غالبا ما تنقل عن بعضها دونما أي فكر نقدي) وهما على وهم وجهلا على جهل. في السطور التالية أعطي بعض الأمثلة لتوضيح ذلك.
في إطار أول منهج دراسي عن الإسلاموية بجامعة مونتريال هذا الخريف، اتفقت مع طلبتي (وهم من عرقيات وأعمار وتخصصات مختلفة) البحث عن تعريف الإسلاموية، لتكون محور المحاضرة التالية. توصل هؤلاء الطلبة من المجتهدين إلى أكثر من تعريف، ناقشناها خلال أكثر من ساعتين، ثم أنهيت المحاضرة بلفت نظرهم بأن جميع التعريفات التي أتوا بها كانت تعريفات لأشهر الباحثين الذين يعملون على دراسة الظاهرة، وأن لا أحد منهم بحث في النصوص التأسيسية للإسلاموية ليعرف كيف يعرّفها أصحابها وذلك، رغم وجود ترجمة لمعظم لتلك النصوص باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وعندما عرضت على هؤلاء الطلبة نماذج من تعريفات الإسلاموية لنفسها، قال لي أحدهم: "لم يتبق غير تعريف واحد يستطيع الصمود أمام تعريف الإسلاموية لنفسها، والأهم أن صاحب هذا التعريف هو الأقل شهرة، والأهم كيف نستطيع أن نطلق على أصحاب التعريفات الأخرى، والتي ليس لها علاقة بالواقع الكلي للظاهرة، أنهم من عظماء المتخصصين في الإسلاموية. ما هذا؟ "
في محاضرة أخرى عن تاريخ الإسلاموية وتطورها، كنا نعمل من خلال خمس نصوص لباحثين مختلفين في المنهج والتكوين والمنشأ وبلد الإقامة، ولكنهم جميعًا من كبار الباحثين الغربيين في هذا المجال، واتفقوا على أن سبب نشأة الإسلاموية في مصر علي يد الإخوان عام 1928 هو رغبتها منذ بدايتها أن تواجه الاستعمار الغربي وإمبرياليته من ناحية، وأن تكون حركة يتم الدعوة من خلالها إلى توحيد المسلمين بعد سقوط" الخلافة" العثمانية من ناحية أخرى. بعد الانتهاء من تحليل تلك النصوص، عرضت لطلبتي بعد ذلك ما يطلق عليه قوانين ومحاضر جلسات ومنشورات جمعية الإخوان لأعوام 1930 و1935 و1945 فلم نجد أي أثر لتلك الادعاءات. قال لي أحد الطلبة: "تاريخ تلك الجماعة لم يكتب كما يجب بعد (فالمتخيل عنها والذي كُتب كتاريخ لها) يبدو أن لا علاقة له بواقع تاريخها".
في محاضرة أخرى كانت تلك المرة عن الإسلام والإسلاموية والحداثة، كنا نعمل كالعادة من خلال نصوص لباحثين مختلفين في المنهج والتكوين والمنشأ وبلد الإقامة، ولكنهم جميعا من كبار الباحثين في هذا المجال، وكان للطلبة في آخر المحاضرة الملاحظات التالية:
1. السؤال المطروح في النصوص هو: هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع قيم الحداثة الاجتماعية-السياسية (العقلانية، العقل النقدي، حقوق الإنسان، استقلالية السياسي عن الديني، دولة القانون المواطنية. إلخ)؟ 2. ثلاثة من النصوص حاولت أن تجيب على هذا السؤال وكأن هناك نمط تدين وحيد يمثل الإسلام، حتى أن أحدهم كان يكتب Islam بحرف كبير، مما يعني أن هناك فهما واحدا يتشاركه جميع المسلمين. هذه النصوص وقعت في فخ مقارنة الثقافة الإسلامية وهي في لحظة معينة من تطورها (وتريد تأبيدها فيها) والثقافة الغربية في لحظتها الراهنة (كأنها ولدت هكذا). والنص الرابع يقدم إجابات الإسلاموية على سؤال الحداثة كأنها إجابات الإسلام. والنص الأخير على الرغم من أنه يقدم ثلاث إجابات باسم الإسلام على سؤال الحداثة، إلا أنه قال إن التيار الغالب حاليًا في الإسلام هو الإسلاموية، ولم يقدم أي إثبات ملموس لتأكيد صحة مزاعمه. 3. ثم اختتم أحد الطلبة الملاحظات وهو يقول: السؤال إذا ليس "هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع قيم الحداثة الاجتماعية-السياسية كما رأينا في تلك النصوص؟ السؤال هو: "أي نمط أو أنماط تدين في الإسلام يمكن لها أن تتفق مع قيم الحداثة وأي نمط أو أنماط تدين في الإسلام لا يمكن لها أن تتفق وقيم الحداثة؟ " وأكمل طالب أخر: "أي أن الإجابة على سؤال "هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع قيم الحداثة؟ هي عن سؤال آخر وهو: عن أي نمط من أنماط التدين في الإسلام نتحدث؟ لكي أستطيع الإجابة. "
في محاضرة أخرى عن البحث عن مفهوم الدولة عند الإسلامويين، من خلال نصوصها المؤسسة ومن خلال تعريفها للمفاهيم التالية: الفضاء الدولي والعام، مصادر التشريع ومصادر الشرعية، عرضت نماذج للباحثين المروجين للإسلاموية وخصوصا الإخوانية منها كبديل ديمقراطي للنظم العربية ما بعد الاستقلال. صاح طالب في نهاية المحاضرة: " من روج للإسلاموية على أنها البديل الديمقراطي للنظم العربية بعد 2011 ارتكب جريمة أكاديمية مكتملة الأركان".
كان من المدهش أيضا أن تجد باحثين من أصول عربية يشاركون في تلك الجريمة الأكاديمية فيقول "جوزيف مسعد" في كتابه "الإسلام في الليبرالية" على سبيل المثال: "إن مهمة الليبرالية تقتضي إعادة تشكيل الإسلام ليكون على شاكلة المسيحية البروتستانتية الليبرالية"، بل ويذهب أبعد من ذلك في إحدى محاضراته، واصفًا الليبراليين في مصر بأنهم فاشيو النزعة أكثر من كل التيارات الأخرى بما فيها الإسلامويين. بل بلغ به الأمر القول بأن فصل الدين عن السياسية هي فكرة إمبريالية مسروقة من المستشرقين. فالكواكبي سرقها من "ويلفرد بلنت" وكتاب "علي عبد الرازق" "الإسلام وأصول الحكم" هو شبه ترجمة لكتاب "الخلافة" لتوماس أرنولد. إن "جوزيف مسعد" والتيارات الأكاديمية الغربية التي تطابق بين الإسلام كدين وبين الجماعات الإسلاموية، وتعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للإسلام، متجاهلة تيارات أخرى مهمة على ساحة المجتمعات المسلمة، كتيار التصوف وتيار التجديد العقلي وتيار الإنسانوية، يتجاهلون التيارات الأخرى العديدة في الإسلام، ويختزلون الإسلام في فكر حركات الإسلام السياسي المعاصرة، تمامًا كما يفعل الإسلامويون.
نحن إذاِ أما جهل مركب يشرح مثله شرف الدين العمريطي المصري الشافعي منذ قرون في نظْمه "تسهيل الطرقات في نَظْم الورقات":
وَالْجَهْلُ قُلْ تَصَوُّرُ الشَّيءِ عَلَى✽خِلَافِ وَ صْفِهِ الَّذِي بِهِ عَلَا
وَقِيلَ حَدُّ الْجَهْلِ فَقْدُ الْعِلْمِ✽بَسيِطًا أوْ مُرَكَّبًا قَدْ سُمِّي
بَسِيطُهُ فِي كُلِّ مَا تَحْتَ الثَّرَى✽تَرْكِيبُهُ فِي كُلِّ مَا تُصُوِّرَا
أمام هذا الجهل المركب المترسخ، لا مناص مما أسميه ب"مقاومة إبستمولوجية"؛ أوإنتاج معرفة تحرر المعرفة الأكاديمية الخاصة بالإسلاموية من المنطقة العمياء، التي وضعها فيها معظم الباحثين عن إدراك أو عن عدم إدراك. وأهم أركان هذه المقاومة هي تفكيك ونقد المنتج المعرفي الغربي، الذي يتناول الظاهرة الإسلاموية بما ليس فيها ويسعي لتبييض نظرتها للعالم، التي لا يمكن أن تتلاءم مع الحد الأدنى لمعايير التعايش معا في سلام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة