بوجه عابس ونظرة حادة اقترب مني وحياني دون مصافحة.
رددت التحية وأفسحت له مكانا إلى جواري على أرضية الزنزانة التي حشر فيها نحو أربعين شابا أغلبهم من عناصر التنظيمات المتشددة ، وبصوت مبحوح قال لي : كيف حالك ألا تتذكرني ؟
قلت له : الحمد لله ،لكن سامحني أنا لا أتذكرك ، هل انت طالب في جامعة عين شمس ؟
ضحك ضحكة قصيرة وقال : نعم أنا طالب في جامعة عين شمس لكني أعرفك قبل الجامعة أنا " فلان " كنت زميلا لك في مدرسة الأهرام الثانوية.
: يخرب عقلك ، مش معقول ، انت عجزت كده ليه ؟! كيف حالك وماالذي أتي بك إلى هنا ؟
رد مبتسما إيماني هو الذي أتي بي إلى هنا ، ولقد مضى علي نحو عشرين يوما في انتظار الترحيل إلى أي سجن سيختاره الطواغيت.
: معلهش ربنا يقويك وتخرج بالسلامة بإذن الله
: لا مش مهم فالجاهلية التي يعيشها المجتمع لا تناسبني
المهم أنا أتابع نشاطك في الجامعة وأنا أعرف جيدا أن معدنك طيب فما زلت أذكر تلاوتك للقرآن في الإذاعة المدرسية و الندوات التي كنت تنظمها في مكتبة المدرسة أما آن الأوان لتهتدي وتكن معنا؟!
فاجأني السؤال فقلت له : يا رجل وكأنك تدعو كافرا للدخول في الإسلام ، ألا ترى أنني وأنت محبوسين في زنزانة واحدة ؟
فرد نعم في زنزانة واحدة لكن شتان الفرق بين من دخل السجن مدافعا عن العقيدة وعمن دخله دفاعا عن أفكار جاهلية لا تختلف عن جاهلية الحاكم إلا في بعض التفاصيل.
إلى هنا لم أتماسك نفسي ووبخته مذكرا إياه بأنني دافعت عنه وعن زملائه حين كاد مدير المدرسة أن يفصلهم جميعا ويبلغ عنهم الأمن نتيجة رفضهم المشاركة في طابور الصباح وتحية العلم بزعم أنها رجس من عمل الشيطان ، وكيف كاد دفاعي عنهم أن يقودني للفصل لولا الود والتقدير الذي كان يكنه لي مدير المدرسة والمدرسين ، وفيما أنا أواصل الرد على فكرته الزائفة بأنه وجماعته هم الفرقة الناجية فتح باب الزنزانة وناداني الحارس سمير عمر تعالى عايزينك في التحقيق.
تذكرت هذه الواقعة بكامل تفاصيلها وانا أطالع تعليقات أعضاء جماعة الإخوان وغيرهم من عناصر الجماعات والتنظيمات الإرهابية الأخرى عما تشهده مصر في السنوات الأخيرة، وكيف أنهم مدفوعين بهذا الشعور الزائف بأنهم " العصبة المسلمة" يعيشون حالة من الإنكار لكل ما شهدته مصر منذ الإطاحة بهم من الحكم ، ويصرون كما كان زميل الدراسة يصر على " عزلة شعورية " عن المجتمع الذي بات يعيش في جاهلية، وهم في هذا الشعور المركب من الإنكار والعزلة الشعورية يسيرون على خطى منظر التطرف ومفكر الإرهاب سيد قطب الذي كتب قبل نحو ستة عقود : " لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقيديّاً وشعوريّاً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية، وأهل جاهلية ".
بهذا الوضوح الفج يضع سيد قطب ركنا من أركان التطرف المؤسس للتنظيمات الإرهابية وهو ما سماه في كتابيه " في ظلال القرآن " و"معالم في الطريق " بالعزلة الشعورية وهو مفهوم يختلف اختلافا جذريا عما قاله الإمام الحسن البصري عن واصل بن عطاء مؤسس فكر التوحيد والعدل أو ما عرف بفكر المعتزلة عندما قال " اعتزلنا واصل بن عطاء " ، وهو أيضا يختلف اختلافا جوهريا عما تقول به السادة المتصوفة عن الخلوة إلى الله للدعاء والتبتل وتزكية النفس، بل هو مرض نفسي يدفع المرء للشعور بأنه الأرقى والأكثر إيمانا والأنقي عقيدة ، ولأنه كذلك فينبغي أن يبتعد عمن هم دونه هو وجماعته "العصبة المسلمة" وهذا ما يقوده حتما إلى حالة الإنكار التي يعرفها الطب النفسي بأنها حالة رفض الحقائق إذ يحاول المريض حماية نفسه من خلال رفض الواقع بشأن ما يحدث في حياته هو ومن حوله.
ونتيجة لهذا الشعور المركب من العزلة الشعورية والإنكار باتت عناصر الجماعة وغيرها من الجماعات التي خرجت من عبائتها في حالة مرضية لا تحتاج إلى المواجهة الفكرية وحسب بل إلى العلاج النفسي لإعادة التأهيل فلربما يمكننا إعادتهم إلى جادة الصواب.
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة