بات من الواضح ومن الممارسة السياسية على الأرض أن إسرائيل لديها بالفعل حكومتان.
الأولى: حكومة تحظى بدعم مؤسسات القوة على مختلف درجاتها، وتسعى لتصعيد المواقف، وقادرة على إدارة الأزمات، والإسراع بتنفيذ اتفاق ائتلاف الحكم، وتصعد وفق مقاربات شاملة وعامة، ومهمة في توقيت بالغ الخطورة.
كما تستطيع الخروج بنمط غير مكرر للحكم من خلال الشد والجذب مع المحيط الفلسطيني، والخروج إلى العمل العسكري برؤية غير تقليدية، وهو ما جرى مؤخرا في جنين ونابلس، وسيتكرر في الفترة المقبلة في مناطق أخرى إضافة إلى قطاع غزة.
والثانية: حكومة موازية تمثل قوى المستوطنين، ولديها القدرة على تنفيذ تدريجي بما وعدت به جمهورها اليميني قبل وبعد تشكيل الحكومة الراهنة، ما يؤكد أن هذه الحكومة- وفي ظل ائتلافها الحاكم - تمثل شريحة الجمهور الحريدي، ولا علاقة لها بقضايا أخرى إلا من نطاقات تقليدية غير مؤثرة، وتفاعل في قطاعات معينة.
وولّد ذلك الشعور الجمعي في إسرائيل بأن الحكومتين اتفقتا في قواسم متعددة، وإن تباينت الرؤى في بعض التفاصيل مع دعم مؤسسات القوة للحكومة الأقوى التي يمثلها نتنياهو، ورفاقه في ليكود وخارجه، وهنا مكمن الخطورة.
وبالتالي لا يوجد تباين حقيقي إلا في مراحل التنفيذ لما تم التخطيط له، وهذا يفسر حالة التجاذب الكبرى التي تشهدها إسرائيل ليس بسبب المظاهرات المستمرة منذ عدة أسابيع اعتراضا على تمرير قانون الإصلاح القضائي، وما سوف يليه.
وقد مر بالقراءة الأولى ولا يزال ينتظر قراءة ثانية، وثالثة، ومن ثم فهناك فرص للتأجيل، وعدم الحسم وتراجع رئيس الوزراء نتنياهو شخصيا، وقد فعلها قبل إجازة الكنيست الأخيرة، ما يؤكد أننا أمام توقع عام لتكرار ما تم في حال تدخل مؤسسات القوة لحسم المشهد.
ويمكن أن يحدث ذلك في حال تكثيف التدخل الأمريكي على خط إدارة الأزمة تخوفا من استمرار حالة عدم الاستقرار، ورغم لقاء الرئيس جو بايدن ونظيره الإسرائيلي هرتسوغ، ودخول إسرائيل في دوامة من الاحتجاجات المفتوحة.
وقد جرت خلال الأسبوع الماضي سلسلة احتجاجات لم تقتصر فقط على يوم السبت مثلما جرى طوال الأسابيع الماضية، ما يشير إلى أن هناك رغبة حقيقية في حسم صدور قوانين سيئة السمعة تضر بالنموذج الديمقراطي للحكم.
ويدفع بقوة إلى حالة من التأزم العام في الدولة، وليس في الحكومة فقط، وهو ما سيكون لديه ارتدادات خطيرة على الأمن القومي للدولة في مداها المتوسط.
ولهذا دخلت على الخط "إيباك"، كبرى المنظمات اليهودية في العالم لإدارة المشهد، محاولة تصحيح الصورة في الخارج، ودفع الولايات المتحدة للتفاعل بدلا من الدخول في صدامات خاصة مع عدم دعوة الرئيس الأمريكي لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والذي رد عليه عمليا بالتحرك في اتجاهات دولية أوروبية وصينية مناكفة للسياسة الأمريكية، مع الإدراك بحدود التحرك في مواجهة الحلف الأمريكي الدائم.
والواقع أن الحكومة القوية في إسرائيل تعبر عن وجودها فهي حكومة مستمرة ليست ضعيفة، ولا أحد يريد الدخول في لعبة إجراء انتخابات جديدة، خاصة، وأن المعارضة الإسرائيلية ضعيفة وهشة، ولا وجود لها، وانضمت في مواجهة غزة الأخيرة إلى الأغلبية دفاعا عن أمن الدولة.
ولا توجد مساحات كبيرة للخلاف باستثناء المعارضة غير المنظمة في ملف الإصلاح القضائي خاصة بعد أن انضمت كل شرائح المجتمع إليها خاصة شريحة العسكريين السابقين، وأغلبهم قادة الدولة وعناصرها السياسية والعسكرية السابقة، والتي تملك تاريخا مشرفا في مواجهة السياسيين الموجودين في الحكومة، وهم أشبه بالهواة الذين لا يملكون تاريخا، ويريدون أن يشابهوا الكبار من القادة التاريخيين، وهو ما ينطبق على السياسيين، والعسكريين الجدد والذي يعملون في منظومة واحدة، ويسعون إلى التواجد جماهيريا، وفي مناطق الصراعات في القدس حيث المسجد الأقصى، والإعلان عن وجودهم تطلب الدخول في مهاترات عدة، وتبني مواقف شعبوية وشعبية وصلت في بعض الأحيان إلى حالة من الفوضوية الكاملة بما يشي أن حالة عدم الاستقرار ستستمر ما لم يتراجع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن مخططه، ومعه وزراء الاستيطان الذي يكثفون من حضورهم الحزبي والشعبي بحثا عن شعبية في مواجهة خبير محنك مثل نتنياهو الذي لن يتراجع، ولن يدخل في الوقت الراهن في أي صفقة خروج آمن إلا إذا ضاقت الدائرة تماما، وتمت محاصرته، وهو أمر مستبعد في ظل استمرار التحقيقات منذ سنوات ومراقبة مؤسسات القوة ما يجري، وعدم وجود ما يشير إلى إمكانية التوصل لتوجيه اتهامات إدانة محددة أي أن سيناريو الإطاحة برئيس الوزراء نتنياهو ما زال مستبعدا، وهو ما يقوم باستثماره بقوة، بل يعمل عليه بذكاء شديد، ومن خلال تكتيك سياسي وحزبي من أجل الاستمرار بل ويعمل على التجاوب مع تنفيذ اتفاق الشراكة الحزبية بالفعل، والانتقال من حالة إلى أخرى من المواجهة المرنة، والمفتوحة مع قوى الائتلاف، وقد خبرهم تماما، ووضع خطة تسكين داخل ليكود وقياداته التي نازعته في بعض الأوقات الصراع على رئاسة الليكود، وخارجه إلى داخل الائتلاف ما يؤكد قوة نتنياهو في مواجهة أي تغيير، أو دعوة للإطاحة به في دوائر الحكم الأمر الذي يشير إلى أن سيناريو التعامل الصفري لن يتم كما يتصور البعض من زاوية حزبية، أو حكومية ضيقة بل من خلال مناخ مختلف وقوى صاعدة وضغط شعبي، والدعوة للتغيير من داخل منظومة الرأي العام، وهو أمر قد يرتبط بالدعوة لانتخابات عامة حال توجيه أدلة اتهامات محددة يطلقها المدعي العام، أو حدوث حالة من عدم الاستقرار السياسي العام.
وفي ظل ضغوطات تمارسها أيضا رموز المؤسسة الدينية باعتبارها من مؤسسات القوة التي تسعى لتقريب وجهات النظر بين كل الأطراف في إشارة إلى أن إسرائيل لن تتحمل مزيدا من أجواء عدم الاستقرار الراهن، وأنها قد تذهب إلى حالة مواجهة داخلية بين شرائح المجتمع، وما لم يحدث في إطار مواجهات إسرائيل من أجل الدفاع عن وجودها، وانتصاراتها الكبرى في مواجهة كل التحديات منذ قيام الدولة، ومن خلال حالة الانقسام غير المسبوقة بالفعل، والتي تؤكد ما تواجهه الدولة من مخاطر حقيقية تتطلب عدم التوقف عن تشريع خاص بالقضاء أو غيره، ولكن إعادة لم شمل المواطنين في الدولة التي تتحدث عن مصالحها الكبرى في الإقليم ، والتي تتجاوز ما يتردد من أن إسرائيل قوية ، وقادرة على الاستمرار رغم أنها لم تكمل 100 عام فقط في المنطقة.
وبالتالي فإن ما يجري سيكون مرتبطا بسيناريو صفري غير واقعي يدفع بقوة للتعامل مع ما يجري انطلاقا من صراع على الوجود لصراع طوائف، وشرائح غاضبة، وثائرة في صورة لم تحدث من قبل في الدولة، وتتجاوز أزماتها الاقتصادية والسياسية إلى أزمات هيكلية تتعلق بمصير، ومستقبل الدولة بأكملها، فالأمر أكبر من توقف تشريع قضائي، أو تمرير قوانين سيئة السمعة، أو التعامل مع مواطني الدولة من عرب 48 ما يؤكد أن الأزمة الراهنة في إسرائيل هي أزمة مفصلية شاملة تتطلب التعامل معها بجدية، وطرح حلول واقعية، وليست مجرد مسكنات وقتية، أو خيارات مرحلية قد تكون غير حاسمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة