لم تعد الشعارات قادرة على تغطية العري السياسي، ولم تعد قضية فلسطين، بكل ما حملته من رمزية تاريخية، قادرة على تبرير التناقض الفاضح في سلوك جماعة الإخوان وذراعها المسلحة "حماس"..
حين قرروا التظاهر أمام السفارة المصرية في تل أبيب، رافعين علم إسرائيل، ومتهمين مصر بتجويع غزة، متجاهلين أن من يقصف غزة ويحاصرها ويمنع عنها الدواء والطحين والهواء هي حكومة نتنياهو التي يقيمون بين ظهرانيها.
أي سريالية هذه؟ بل أي صفاقة فكرية تجعل جماعة تصف نفسها بأنها "مقاومة"، تتظاهر من قلب الكيان الإسرائيلي، تطعن القاهرة وتهادن من يذبح غزة؟ هذه ليست حماقة، هذا فعل سياسي مقصود، من نظّم تلك الوقفة يعلم أنه يوجّه سهامه صوب مصر، ويمنح تل أبيب لحظة تنفس نادرة في خضم أزمة دولية حول مسؤوليتها عن التجويع والتدمير الممنهج في القطاع.
"حين يتحول الغضب إلى مسرحية مرخّصة من حكومة الاحتلال، فاعرف أن العدو تغيّر أو أن القناع سقط، وحين يحصل المتظاهرون على تصريح رسمي من وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير – الذي لا يخجل من المطالبة بإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم – فإن السؤال لم يعد: من هم هؤلاء؟ بل: لمن يعملون؟.
الجناح الجنوبي من الحركة الإسلامية داخل إسرائيل، المحسوب أيديولوجيًا وتنظيميًا على الإخوان، قرّر أن عدوه هو مصر، لا حكومة إسرائيل، وأن معبر رفح هو رمز للغلق، لا جسرٌ للنجاة، وأن المعركة التي ينبغي خوضها ليست ضد الجلاد، بل ضد من يُحرج الجلاد أمام العالم.
ويا للمفارقة، هذه المظاهرة جاءت بعد جهود دبلوماسية عربية، قادتها السعودية ومعها الإمارات ومصر، أدت إلى دفع دول كبرى مثل فرنسا، وبريطانيا، وإيرلندا، والبرتغال، وكندا، إلى الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، وهو اختراق نوعي في خطاب الشرعية الدولية، فماذا كان موقف "حماس"؟ لا بيان تأييد، لا دعم للجهود، لا إعلان موافقة على تفويض السلطة الفلسطينية للتفاوض باسم غزة، ولا حتى تهدئة سياسية تُحرج نتنياهو أمام الداخل الإسرائيلي، كل ما خرج منهم همز وغمز وتخوين، والهدف: تقويض كل ما لا تملكه الجماعة، ولو كان في مصلحة الشعب الفلسطيني.
"حين يُصبح الاعتراف بالدولة عدوًا لحماس، اعلم أن المشروع ليس تحرير فلسطين"، بل تحرير الكرسي من خصوم الجماعة، هل الهدف اليوم هو الدولة الفلسطينية؟، أم بقاء الجماعة؟، هل المطلوب هو رفع الحصار عن غزة؟ أم تعميق ارتهانها لقيادة لا تملك من الأمر إلا الخطاب؟، وهل كُلّ هذا الخراب والدمار، وكل هذه الأشلاء، خرجنا بها من 7 أكتوبر/تشرين الأول فقط لكي نُبقي "حماس" في الحكم، أو نمنح الإخوان ورقة لابتزاز الداخل المصري من بوابة غزة؟
ثم لنسأل بمنتهى الوضوح لو أن هذه الجماعة صادقة في حرصها على فتح المعبر، فلماذا لا تحتج على من دمّره بالقصف؟ لماذا لا تقف أمام مقر إقامة نتنياهو في القدس؟، لماذا لم نرَ صورة واحدة لراية فلسطينية مرفوعة في تلك المظاهرة، بينما رفرف العلم الإسرائيلي أمام السفارة المصرية؟ لماذا صمتت "حماس" عن هذا المشهد؟ أليست هي "القيادة" التي تدعي تمثيل القطاع؟
"الذي يحتج على مصر تحت راية بن غفير، لا ينتمي إلى غزة، بل إلى ماكينة تضليل دولية تخدم تل أبيب أكثر مما تُحرجها"، الحقيقة أن الإخوان، وحماس من ورائهم، يدركون أن ما يحدث في غزة لم يعد يُفسَّر بعبارات المقاومة، بل بمنطق الاستثمار، استثمار في الدم، في الخطاب، في القتلى والجوعى، القضية أصبحت ملاذًا للإفلاس السياسي، ومنصة للتكالب على الأنظمة، لا للوقوف بوجه الاحتلال، ولهذا، حين تتعرض مصر، بوزنها العربي والدولي، لحملات شيطنة وتحريض، فاعرف أن الأمر يتجاوز حدود رفح، إلى ما هو أبعد، محاولة انتزاع الشرعية من القاهرة وإعادة تصديرها من أنقرة أو طهران أو تل أبيب.
أما من يُطلق على نفسه "ناشطًا" أو "إمام مسجد" من عرب الداخل، ويستقوي بإذن من حكومة إسرائيل لكي يُدين مصر، ثم يصف نفسه بأنه ابن فلسطين، فهو ليس أكثر من نسخة مستحدثة من العملاء المحليين الذين أنتجهم كل احتلال عبر التاريخ.
ولنكن أكثر وضوحًا، من يتظاهر في تل أبيب ضد مصر، وهو يرى غزة تحترق، لا يملك نوايا طيبة، هو جزء من ماكينة تآمرية، حتى وإن ارتدى ثوب الغضب الشعبي، ومن يدير ظهره لكل جهود الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويسعى لإفشالها لأنه خارجها، لا يقاوم الاحتلال، بل يقاوم المسار السلمي، لأنه لا يمرّ عبر بواباته.
"الخطر لم يعد من إسرائيل أو حتى إيران فقط، بل من أولئك الذين يحكمون باسم المقاومة، ويقايضون دماء الفلسطينيين بمقاعدهم"، وهنا جوهر المسألة الصراع ليس بين مقاومة واحتلال، بل بين مشروعين، مشروع عربي يريد أن يُنجز دولة فلسطينية قابلة للحياة، ومشروع إخواني يسعى لتفخيخ كل طريق إلى السلام، لأنه لا يعيش إلا على حافة الفوضى.
هل فهمتم لماذا يتظاهرون ضد مصر في تل أبيب؟، لأن تل أبيب بكل وضوح باتت أقرب إلى الإخوان من القاهرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة