ليس هناك من شك في أن هجوم حركة حماس والفصائل الفلسطينية على المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سيدخل كتاريخ مفصلي في حياة دولة إسرائيل بعد 75 عاماً من قيامها عام 1948.
وترتبط أهمية ودلالات هذا الهجوم بحدث أكبر تم قبله بخمسين عاماً، وهو الحرب المفاجئة التي شنتها القوات المصرية ومعها القوات السورية، في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
فقبل هذا اليوم العظيم الذي أسفر عن عبور القوات المصرية لقناة السويس واجتياح كل الخطوط الدفاعية الإسرائيلية الحصينة شرق القناة في سيناء المحتلة وأهمها وأقواها خط بارليف، كانت إسرائيل تباهي وتتحدى كل جيرانها العرب بجيشها "الذي لا يقهر"، والذي استطاع في يونيو/حزيران 1967 أن يحتل في وقت وجيز سيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية وغزة الفلسطينيتين.
أتى انتصار أكتوبر/تشرين الأول الباهر والمفاجئ ليطيح بأسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، ولتدخل الدولة العبرية ومعها أطراف الصراع الرئيسية، مصر والأردن أولاً ثم منظمة التحرير الفلسطينية، إلى ساحات المفاوضات السياسية في سعي لحل الصراع بعيداً عن الحروب.
وأصبحت «حرب أكتوبر» بالفعل هي آخر الحروب النظامية بين إسرائيل وجيوش الدول العربية، ولكن بعد نجاحها الساحق في تأكيد أن الجيش الإسرائيلي لم يعد قادراً على حماية الدولة من جيوش الدول العربية المحيطة بها.
بعد 50 عاماً من هذا التحول الجوهري في دور وسمعة الجيش الإسرائيلي، أتى هجوم السابع من أكتوبر/تشرن الأول 2023، ليطيح بمعان أخرى ظلت ملاصقة لدولة إسرائيل منذ قيامها.
فقد أطيح بمفهوم الدولة الآمنة ذات الأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية شديدة القوة، والقادرة في كل وقت على حماية سكانها من أي ضرر كبير يمكن أن يلحق بهم من هجمات داخلية أو عبر الحدود.
أبرز هذا الهجوم غير المسبوق تهاوي قدرات كل هذه الأجهزة والمؤسسات واقعياً، والأهم أمام المواطنين الإسرائيليين، الذين اضطر مئات الآلاف منهم إلى النزوح بعيداً عن مناطق الحرب في الجنوب والشمال خوفاً من تداعياتها، بينما ظل الباقون في مناطق الوسط في حالة خوف دائم من وصول صواريخ وقذائف الحرب إليهم.
ظل الشعور الدائم منذ 50 عاماً، حيث نصر أكتوبر/تشرن الأول 1973، لدى النخبة الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية والجمهور العام، بأن جيشهم بات ممكناً قهره ولم يعد هو أداة الحماية الوحيدة أمام أي هجوم خارجي.
وأتى هجوم السابع من أكتوبر/تشرن الأول ليفاقم من مشاعر وإدراك النخبة والجمهور، بأن الداخل أيضاً لم يعد آمناً، بعد انهيار الثقة في كل الأجهزة والمؤسسات المختصة، التي فشلت كلها في توقع الهجوم وفي مواجهته.
ثم بعد هذا في التعرف على أماكن احتجاز المئات من الإسرائيليين والأجانب الذين أخذتهم الفصائل الفلسطينية إلى داخل قطاع غزة، مما اضطرهم للتفاوض والتبادل من أجل إطلاق سراح البعض منهم.
تفاعل الشعور بالخطر الوجودي الأعمق من نوعه لدى نخبة وسكان إسرائيل منذ قيامها، مع الصعود غير المسبوق لتيارات اليمين الديني التوراتي المتطرف ليهيمنوا على الكنيست والحكومة ومراكز صنع القرار، لكي يدفع الدولة العبرية إلى أسوأ السيناريوهات التي كان يمكن تصورها في مثل الأزمة الحالية.
فقد استغلت قوى هذا اليمين تلك المشاعر، لكي تطرح مشروعها الأخطر بإخلاء الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية من أهلها الفلسطينيين والدفع بهم قسراً نحو مصر والأردن، لكي يكتمل الحلم الصهيوني – التوراتي بامتداد الدولة اليهودية على كل أراضي فلسطين التاريخية.
وفي سبيل استعادة الثقة المنهارة والأمان المتهاوي و"أرض إسرائيل" الكاملة، اختارت النخبة اليمينية الدينية التوراتية المتطرفة الحاكمة أن تلجأ للقوة العسكرية الغاشمة وغير المسبوقة في حربها على قطاع غزة، وقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء وتدمير البنية التحتية للقطاع والغالبية الأكبر من مساكن أهله.
وبعد أكثر من شهرين من هذا العدوان الأكبر في العالم منذ عقود طويلة، لم ترجع الثقة المنهارة ولا الأمن المتهاوي ولا "أرض إسرائيل" الكاملة، بل تعقدت الأوضاع وتجذرت مشاعر الخوف وعدم الثقة في مجتمع إسرائيل ونخبتها، وزاد عليها التوتر الشديد غير المسبوق بين تل أبيب والجارين المباشرين اللذين تربطها بهما معاهدات سلام، أي مصر والأردن، بعد رفضهما الصارم لأي محاولات للتهجير القسري للفلسطينيين خارج أراضيهم.
إسرائيل اليوم في مفترق طرق غير مسبوق منذ قيامها، ويبدو مؤكداً أن الطريق الذي اختارته نخبتها الحاكمة لن يؤدي – مهما طال – سوى إلى مزيد من التعقيد والخطورة عليها وعلى الفلسطينيين وعلى مجمل المنطقة، بل وربما على العالم كله.
من هنا، فإن التوقف الكامل عن هذه الحرب المجنونة، والعودة إلى التفاوض حول ما أجمع عليه العالم، وهو حل الدولتين، هو السبيل الوحيد ليس لإعادة الحقوق القانونية والتاريخية المسلوبة للشعب الفلسطيني فقط، بل لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن نخبتها الحاكمة، وإنقاذ منطقتنا وعالمنا كله من تداعيات قد تكون أخطر وأسوأ كثيراً مما نتصور.
diaarashwan@gmail.com
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة