يبدو أن العراقيين يعيشون سريالية جديدة تُضاف إلى ما عاشوه في زمن الحصار والحرب والاحتلال.
ضحك المواطنون العراقيون كثيراً وتهكموا وسخروا من إدراج مادة العدس والطحين ضمن مفردات البطاقة التموينية لشهر رمضان المقبل لا لعدس ذاته بل بسببِ إعلان الحكومة عبر موقع رئيس الوزراء الرسمي كخبر سار يُزفُ إلى العراقيين.
وسرعان ما تبادر إلى أذهان المتهكمين الأمثلة التي ارتبطت بالعدس منها: "اليدري يدري واللي ما يدري كضبة عدس" فيما تناول آخرون الطرائف التي ارتبطت به مثل: إذا تناول الشخص العدس كفطور فهو أمير ولو تناوله كعشاء فهو شحاذ! أو أن العدس "لحم الفقراء" لتوفره على الحديد والبروتينات! ومجلس الوزراء العراقي حريص على تزويد العراقيين بالفيتامينات وغيرها.
هل هناك أكبر من ذلة توزيع العدس والطحين في رمضان في الحصة التموينية كبشرى سارة؟ وأن أغلب الناس يعيشون تحت مستوى خط الفقر في بلد بترولي، في الوقت الذي تنتقد بدناءة ولؤم بلدان الخليج التي وصلت إلى أعلى مستويات العيش والبناء
يبدو أن العراقيين يعيشون سريالية جديدة تُضاف إلى ما عاشوه في زمن الحصار والحرب والاحتلال، والأدهى من هذا كله أن الحكومة اعتبرت هذه الخطوة مكرمة للعراقيين لما أصابهم من فقر إلى درجة أنهم أصبحوا يفكرون بالعدس كحاجة أساسية.
ولم تهدأ موجة السخرية بل امتدت من المقاهي والشارع إلى مواقع التواصل الاجتماعي، بل اشتعلت بالعديد من "البوستات" و"التغريدات" في الفيسبوك والتويتر: منها صفحة تحت عنوان هاشتاق #عدس_الحكومة يجمعنا و#حملة التبرع بالعدس_للحكومة، كما نشروا أيضاً مقاطع تمثيلية تسخر من القرار الوزاري الخاص بتوزيع العدس والطحين.
ولعل أبرز تلك المقاطع وأكثرها انتشارا ما جسده مشهد تمثيلي لأحد المسؤولين الحكوميين أثناء زيارته إلى أحد الأحياء الشعبية في العاصمة وصراخ الأطفال والصغار، مرددين: "جيب العدس جيبه"، وهو يصّب في صحونهم بملاعق صغيرة من العدس!
وذهب أحد الناشطين إلى التعليق ساخراً من وزارة التجارة بقوله: كيف أنها بدأت تستفز كوادرها وتدخل مرحلة الإنذار "ج" وتجهزّهم بقناع وقاية وزمزمية ماء؛ استعداداً لتجهيز المواطنين بمادة العدس و5 كيلو طحين صفر خلال شهر رمضان.
وانتشر التعبير الساخر من أجل «حفنة من العدس» يعيش العراقيون! هكذا واجه العراقيون القرار الوزاري بتوزيع مادتي العدس والطحين ضمن الحصة التموينية بالتهكم والسخرية من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، قائلين: ماذا كان سيفعل رئيس الوزراء لو كان الخبر بناء ناطحات سحاب ومستشفيات ومدارس ومجمعات سكنية وتأمين الماء والكهرباء؟ ولو حقق ذلك ما الذي كان سيقوله على شاشة التلفزيون؟ كان ظهوره باهتاً وخجولاً مرتبطاً بتوزيع العدس والطحين في بلد ميزانيته بالمليارات!
ولم تتوقف التعليقات والتهكمات، حيث علق آخرون بأن خبر هذه المكرمة أن تصبح "هيد لاين" - مانشيتات - في كل القنوات الإعلامية.
وكتب أحد الناشطين ساخرا: تنويه.. على المغتربين العودة إلى وطنهم لاستلام نصف كيلو عدس في رمضان! وكتبت أخرى: ألمانيا الآن.. اللاجئون العراقيون يتوافدون إلى القنصلية العراقية لإجراءات جواز العبور إلى بلدهم لاستلام حصتهم، وكتب آخر: نرجو من كل الأخوة عدم إطلاق العيارات النارية بمناسبة قرار العدس!
وما زاد الناس سخرية واستياءً ظهور رئيس الوزراء على شاشة التلفزيون، قائلاً إن "الزيادة أفضل من النقصان وإنه في حال جرى إنقاص تلك الكمية بالتأكيد سيكون هناك رفض من قبل المواطنين"، في ظروف قاسية يعانيها العراقيون حيث يُضرب المعلمون عن العمل لسوء أحوالهم المعيشية، في ظل الإعلان عن 13 مليون أمي في صفوف العراقيين.
هكذا تحول الواقع إلى أغرب من الخيال في بلد العجائب.. لا ننسى أن هذا القرار - أي توزيع نصف كيلو من العدس لكل عراقي و5 كيلوجرامات من الطحين - ضمن مفردات البطاقة التموينية لشهر رمضان فقط، يتزامن مع الإعلان عن ميزانية العراق لعام 2019 وهي 28 مليار دولار، وربما هناك مَنْ يتساءل: أين تذهب هذه الأموال؟ ولا تكن الإجابة صعبة لأن أغلبها يذهب إلى جيوب اللصوص والمليشيات والأحزاب الدينية واستيرادات من إيران لإنقاذ اقتصادها المتهاوي.
ولو عدنا إلى التاريخ، فإن الحصة التموينية ارتبطت بأيام الحصار العالمي ضد العراق في ظروف استثنائية، وكانت تشمل 9 مواد بينها مساحيق للغسيل ومستلزمات الحلاقة، فضلا عن المواد الرئيسية كالطحين والأرز والسكر والزيت وغيرها، كتدبير حكومي إزاء أوضاع الحصار.
ولكن بعد احتلال العراق في 2003 تقلصت الحصة التموينية واختصرت من 9 مواد إلى 3 ومن 12 شهراً إلى 8 أشهر فقط، مع عدم انتظام توزيعها والتحايل على كميتها ونهبها من قبل التجار.
والمفترض ومع الأموال التي تدفقت على العراق وهي تُقدر بألف مليار دولار، لم يكن العراقيون بحاجة إلى أي نوع من الحصة التموينية المهينة أصلاً لولا تهريبها إلى الخارج وإعطاء نصفها كتعويض إلى إيران ظلماً وبهتاناً.
ويتساءل العراقيون: هل عليهم أن يدفعوا فاتورة فشل المسؤولين السياسيين وانتشار الفساد، وهم يتذكرون الحكم الصادر بحق وزير التجارة الأسبق عبد الفلاح السوداني الذي هرّب المليارات إلى الخارج بالسجن 21 عاما بتهم التقصير والفساد ثم تم الإعفاء عنه. وفي ظل هذا الفساد ترفع الأحزاب الدينية في جميع الأحياء شعارات "هيهات منا الذلة"، و"ظهور المهدي لكي ينقذ العالم" وغيرها من الشعارات؛ فهل هناك أكبر من ذلة توزيع العدس والطحين في رمضان في الحصة التموينية كبشرى سارة؟ وأن أغلب الناس يعيشون تحت مستوى خط الفقر في بلد بترولي في الوقت الذي تنتقد بدناءة ولؤم بلدان الخليج التي وصلت إلى أعلى مستويات العيش والبناء.
يتعدى الموضوع العدس والطحين إلى انعدام المسؤولية وروح المواطنة؛ كان ينبغي أن تُلغى البطاقة التموينية من أجل أن يعيش العراقيون مثل بقية شعوب العالم من ثروات بلدانهم ومن عملهم وزراعتهم لا ينتظرون المكرمات والهبات والعطايا المهينة، ويكفي أن يتم إعادة النظر بالإنتاج وتوزيع الثروات بطريقة عادلة وانتهاج سياسة اقتصادية والقضاء على الفساد والسرقة وفك الارتباط بالاقتصاد الإيراني المتهاوي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة