كان من الطبيعي أيضاً تزايد معدلات البطالة لتبلغ مستويات لم تشهدها البلاد منذ عقود طويلة،
على عكس الكثير من بلدان العالم، وخاصة في العالم النامي، ينتظر صناع القرار الاقتصادي في اليابان بلهفة أن يكون الارتفاع الأخير المسجل في المستوى العام للأسعار، وما رافقه من زيادة في مبيعات التجزئة في المتاجر، خلال شهر نوفمبر الماضي، أمراً مستقراً ومستمراً خلال العام الجديد.
الركود والانكماش الممتد
شهد الاقتصاد الياباني لفترة طويلة أزمة اقتصادية مزمنة بدأت منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن. وكانت الأزمة عصيّة على المعالجة؛ بحيث مرّ الاقتصاد الياباني بأسوأ سنواته على الإطلاق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد أسميت هذه الأزمة باقتصاد الفقاعة، وتعني الفقاعة الارتفاع البالغ في أسعار الأصول (الأراضي والأسهم والسندات) على نحو لا يبرره الأداء الاقتصادي، إذ زادت أسعار تلك الأصول بمقدار 300% أثناء فترة الرواج في الثمانينيات.
وعند انفجار هذه الفقاعة (أي اتجاه أسعار الأصول للتدهور) بدأ الجميع في المعاناة واتجه النشاط الاقتصادي إلى التدهور السريع، والواقع أنه لعمق واستمرار هذه الأزمة الاقتصادية أصبح الجميع يتحدثون عن أزمة هيكلية في اليابان، وليس عن كساد تجاري عادي وفقاً لنظرية الدورات التجارية.
الأكثر أهمية في الاقتصاد الياباني هو انخفاض معدل البطالة إلى 2.7% وهو أقل مستوى له منذ 24 عاماً، وارتفاع نسبة فرص العمل المتاحة قياساً إلى الطلب على العمل إلى 156% (أي أنه لا يتوفر لكل 156 فرصة عمل متاحة سوى 100 طالب للعمل فقط) وهو أيضاً أعلى مستوى لهذه النسبة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
ورغم انتشار الأزمة الاقتصادية كان القطاع المصرفي هو القطاع الأول الذي شعر بعمق الأزمة، حيث كانت البنوك قد قدمت مبالغ كبيرة من الائتمان، ودون أن تدقق في الجدارة الائتمانية للمقترضين من المشروعات والأشخاص، وسرعان ما انتقلت هذه الموجة من الأزمة إلى القطاعات الأخرى غير المالية من الاقتصاد وبآثار خطيرة على كل من حجم الناتج والعمالة.
إذ اضطرت الشركات مع ارتفاع مستوى مديونياتها عن قيمة أصولها إلى تقليص استثماراتها الجديدة، والتركيز على سداد مديونياتها، حيث يقدر أن استثمارات الشركات انخفضت بمقدار 22% في عام 2003 مقارنة بما كانت عليه في عام 1990، وكانت النتيجة الطبيعية مع انخفاض معدل الاستثمار هي التراجع في معدل نمو الاقتصاد ليسجل مستويات بالغة التدني، بل وليسجل معدلات سالبة في بعض الأعوام مثل 1998 و1999، ثم مرة أخرى في عام 2009. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة 2014-2016 على سبيل المثال كان متوسط معدل النمو لا يزيد على 0.9%.
وكان من الطبيعي أيضا تزايد معدلات البطالة لتبلغ مستويات لم تشهدها البلاد منذ عقود طويلة، أضف إلى ذلك أن معدلات الأجور الحقيقية شهدت انخفاضاً كبيراً.
ومع زيادة البطالة وانخفاض الدخول الحقيقية تقلص الاستهلاك، ليشهد الاقتصاد الياباني ما يعرف بالانكماش الاقتصادي. والانكماش هو التراجع المستمر في المستوى العام للأسعار، الذي يغذيه التراجع في الطلب، حيث يصبح المستهلكون أكثر حرصاً على ما بأيديهم من أموال لسببين رئيسيين: الأول هو ارتفاع البطالة وانخفاض الدخول الذي يدفعهم ليكونوا أكثر حرصاً في الإنفاق احتياطاً للمستقبل.
أما السبب الثاني فينجم عن اضطرار الشركات مع عزوف المستهلكين عن الشراء إلى خفض الأسعار، وهو ما يحفز المستهلكين على تأجيل الشراء للاستفادة من انخفاض أكبر في الأسعار مستقبلاً، وهكذا يدخل الاقتصاد في دائرة خبيثة من الانخفاض في الطلب والأسعار، حيث ظلت الأسعار تنكمش بين عامي 1995 و2014، ورغم تسجيل معدل تضخم في حدود 2% في عام 2015 وهو الأعلى منذ عام 1991، إلا أن المعدل انخفض في العام التالي 2016 ليسجل نحو 0.27% فقط.
ومما عمق من الأزمة دخول الاقتصاد فيما يسمى بـ "مصيدة السيولة"، فمع تخفيض بنك اليابان المركزي لمعدلات الفائدة المصرفية في محاولة مواجهة الكساد حتى أصبحت قريبة من الصفر (أقل من 1% منذ عام 1994) تصبح قدرته على حفز الاقتصاد قريبة من الصفر أيضاً. ولا يصبح هناك مجال لمحاولة حفز الاقتصاد سوى عبر السياسة المالية بزيادة الإنفاق الحكومي وهو ما فعلته الحكومات المتوالية منذ مطلع التسعينيات وحتى وقتنا الراهن.
لماذا تعلق الآمال على 2018؟
دفع العديد من التطورات الإيجابية التي شهدها الاقتصاد الياباني خلال عام 2017 إلى بذر بذور الأمل في الخروج من الأزمة المستمرة منذ ربع قرن تقريباً، إذ ارتفع معدل النمو الاقتصادي وزاد الإنتاج الصناعي، وزادت مبيعات التجزئة زيادة غير متوقعة في شهر نوفمبر الماضي.
لكن الأكثر أهمية في الاقتصاد الياباني هو انخفاض معدل البطالة إلى 2.7% وهو أقل مستوى له منذ 24 عاماً، وارتفاع نسبة فرص العمل المتاحة قياسا إلى الطلب على العمل إلى 156% (أي أنه لا يتوفر لكل 156 فرصة عمل متاحة سوى 100 طالب للعمل فقط) وهو أيضاً أعلى مستوى لهذه النسبة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وما ينتظر مع هذا الموقف في سوق العمل هو إقدام الشركات على رفع مستوى الأجور، حتى تستطيع جذب المزيد من العمال الذين تحتاج إليهم، وهنا يكمن الأمل في زيادة مستقرة في إنفاق المستهلكين للخروج من دائرة الانكماش، وتسجيل معدلات تضخم أعلى، ومع ارتفاع معدل التضخم قد تعود السياسة النقدية لتلعب دوراً مهماً، حيث إن البنك المركزي يستهدف معدل تضخم يبلغ 2%، قد يتدخل بعده لتقييد السياسة النقدية بعض الشيء، لكن مثل هذا المعدل لا يزال بعيداً والأمل في تحقيقه معلق في رقبة العام الجديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة