أخيرا بدأ الإنصات إلى صوت العقل والعقلاء داخل أمريكا فعلى مدار سنوات كان هناك دائما من يحذر من خطورة الدور الذي تلعبه الجزيرة
أخيرا بدأ الإنصات إلى صوت العقل والعقلاء داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى مدار سنوات كان هناك دائما من يحذر من خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام القطرية أو التي تتلقى تمويلها من الدوحة على الأمن القومي الأمريكي وعلى المصالح الأمريكية حول العالم، لكن صدى هذه الأصوات الأمريكية كان يرتد خائبا إما بسبب تغلغل المال القطري في كثير من المؤسسات الأمريكية وإما بسبب تهوين بعض الدوائر الأمريكية من قدرة دويلة مثل قطر على الإضرار بدولة عملاقة وقوة كبرى مثل الولايات المتحدة، لكن مؤخرا بدا أن هناك تحركات أمريكية واقعية بدأت تعي حقيقة أن الخطر لا يأتي فقط من قوى كبرى مماثلة أو من خصم على نفس القدر من الإمكانيات، وأن ضآلة وزن الدولة لا يعني صغر شرها ولا التهوين بالضرورة من قدرتها على الأذى وإحداث الضرر.
إن مقترحي القانون تجمعت لديهم من الأدلة ما يكفي لترسيخ قناعة بأن "الجزيرة" ليست وسيلة إعلامية مستقلة كما تدعي أو أن لديها سياسة تحريرية محايدة وإنما هي ممثلة بشكل صريح للحكومة القطرية وجزء لا يتجزأ منها وترتبط ارتباطا واضحا بالنظام القطري ومصالحه
أحدث التحركات الأمريكية الجادة كان ما كشف عنه موقع "ذا ديلي بيست" الإخباري الأمريكي الشهير من تكثيف أعضاء بارزين في الكونجرس من تحركاتهم الرامية إلى إقرار مشروع قانونٍ جديد يجري التداول بشأنه حاليا وينص على إلزام المؤسسات الإعلامية العاملة في الولايات المتحدة الممثلة لحكومات أجنبية أو المدعومة منها بتقديم تقارير دورية لهيئة الاتصالات الفيدرالية (FCC)، وذلك لإطلاعها على المعلومات الخاصة بالأنشطة التي تمارسها الجهات والشركات الأم المالكة لها على صعيدي التشغيل والتمويل، المشروع يستهدف تضييق الخناق على المؤسسات الإعلامية القطرية العاملة في الولايات المتحدة، وفي مقدمتها النسخة الناطقة باللغة الإنجليزية من قناة "الجزيرة" وإجبار هذه الجهات على الإفصاح عن التفاصيل الخاصة بتمويلها والالتزام بقدر أكبر من الشفافية على صعيد أنشطتها في الدولة الأقوى في العالم، ومن شأن استصدار القانون إرغام "الجزيرة" وكثير من وسائل الإعلام القطرية الأخرى، على إماطة اللثام عن هذه التفاصيل التي تحيطها بتكتم شديد لهيئة الاتصالات الفيدرالية التي تتولى تنظيم أنشطة محطات الإذاعة والتلفزيون والفضائيات في الولايات المتحدة.
القانون المقترح يتضمن أن تسجل "الجزيرة" نفسها في إطار الكيانات المشمولة بقانون تسجيل الوكلاء الأجانب "Foreign Agents Registration Act" الذي صدر عام 1938 لمواجهة المد الشيوعي في ذلك الوقت، وينظم عمل ممثلي مصالح الدول الأجنبية في الولايات المتحدة ممن يتولون الدعاية لهذه البلدان وحشد التأييد لها وتحسين العلاقات بين حكوماتها وبين الجهات المؤثرة على عملية صنع القرار في واشنطن، وهنا فإن مقترحي القانون تجمعت لديهم من الأدلة ما يكفي لترسيخ قناعة بأن "الجزيرة" ليست وسيلة إعلامية مستقلة كما تدعي أو أن لديها سياسة تحريرية محايدة وإنما هي ممثلة بشكل صريح للحكومة القطرية وجزء لا يتجزأ منها وترتبط ارتباطا واضحا بالنظام القطري ومصالحه ولا تتصرف بمعزل عن تعليماته وتوجيهاته وأمواله، لذا لا يجب التعامل معها على أنها وسيلة إعلامية وإنما باعتبارها ممثلا لمصالح حكومة أجنبية مثلها في ذلك مثل جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة، وهو ما يفرض بالتالي قواعد قانونية جديدة ومختلفة في التعامل معها غير تلك القواعد المنظمة لعمل وسائل الإعلام، ومن بين الدلائل التي يستند إليها المشرعون الأمريكيون في الربط بين الجزيرة والحكومة القطرية تصريحا سابقا للسفير القطري في واشنطن قال فيه إن قناة الجزيرة هي إحدى أهم أدوات قطر السياسية والدبلوماسية، وإنها تلعب دورا بارزا في تشكيل علاقات قطر بدول العالم، ولم يكن هذا الربط فقط هو الداعي وحده إلى ضرورة تسجيل الجزيرة في إطار قانون تسجيل العملاء الأجانب، لكن كان هناك عاملان آخران مرتبطان؛ أولهما تجمع الكثير من الدلائل على ما تقوم به الجزيرة من دعم تنظيمات إرهابية مدرجة على لائحة وزارة الخارجية الأمريكية للمنظمات الإرهابية، وثانيهما وهو الأمر الجديد تقمص قناة الجزيرة دور أجهزة المخابرات وقيامها بأنشطة لا توصف إلا بكونها أعمال تجسس واضحة، وذلك بعد أن كشفت صحيفة "واشنطن فري بيكون" الأمريكية عن استخدام المكتب الأمريكي لقناة الجزيرة لشخص غير صحفي للتجسس على مواطنين أمريكيين من أصل يهودي، بعد أن قامت بزرع هذا الشخص للعمل في عدد من المنظمات اليهودية الأمريكية لعدة شهور، ما مكنه من تصوير بعض العاملين فيها والاطلاع على الملفات الخاصة بها بهدف تصوير فيلم وثائقي عن عددٍ من التنظيمات اليهودية التي تتخذ من واشنطن مقرا لها.
سيؤدي إلزام "الجزيرة" بتسجيل نفسها في إطار قانون (FARA) إلى فرض قيود على قدرتها على الوصول إلى مسؤولين أمريكيين واستضافتهم على شاشتها، كما سيؤدي إلى تقييد دخول ممثليها وكاميراتها إلى منشآت ومؤسسات سياسية وأمنية أمريكية باعتبارها ممثلة لجهة أجنبية، ما سيفضي إلى تقييد أنشطتها في الولايات المتحدة في نهاية المطاف.
الالتفات الأمريكي المتأخر لخطورة أذرع نظام الحمدين الإعلامية التي يستغلها في تشويه خصومه ودعم الإرهاب وتنظيماته يثبت أن الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب كانت محقة وبعيدة النظر.. فهي أول من لفت نظر المجتمع الدولي لخطورة قناة الجزيرة وأنها ليست مجرد وسيلة إعلامية.. وهي أول من اعتبرتها بوقا للنظام القطري وجزءا لا ينفصل عنه، وبالتالي يجب أن تعامل على هذا الأساس باعتبارها أحد معاول الهدم التي يستخدمها تنظيم الحمدين لتحقيق أهدافه لا على أساس أنها منبر إعلامي مستقل لا يتوجب إسكاته. لذا عندما وضعت الدول الأربع 13 مطلبا اعتبرتها ركنا أساسيا لحل الأزمة مع قطر جعلت في القلب من هذه المطالب إغلاق قناة الجزيرة المتهمة بإثارة الاضطرابات في المنطقة ودعم جماعة الإخوان المسلمين، وإغلاق جميع وسائل الإعلام التي تدعمها قطر بشكل مباشر أو غير مباشر، والامتناع عن دعم أو تمويل الجمعيات والمنظمات التي تصنفها الدول الأربع والولايات المتحدة إرهابية، فعندما بدأت الأزمة حاولت قطر ولا تزال إنكار أسبابها، ووصفتها بأنها "اتهامات باطلة"، وعندما وضعت الدول الأربع مطالبها لحل الأزمة لا سيما تلك المتعلقة بخطاب "الجزيرة" التحريضي حاولت قطر وإعلامها ونشطاؤها التنصل منها والالتفاف حولها تحت دعوات زائفة مثل حرية الإعلام والتعبير ورفض إسكات المنابر الإعلامية وغير ذلك من مقولات حق أريد بها باطل.
والآن.. ما رأي دعاة الحرية الزائفة بعد أن أصبحت "الجزيرة" في مرمى نيران مؤسسات ديمقراطية مثل الكونجرس الأمريكي، وبعد أن أصبحت الأصوات المطالبة برقابة أنشطتها ووضعها تحت مجهر الشفافية باعتبارها ممثلا لحكومة أجنبية تأتي من أكبر البلدان الديمقراطية الرافضة لانتهاك الحريات ومن أكبر مؤسساتها المنتخبة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة