ما شهده الأردن مؤخراً من مظاهرات أُخرجت عن سياقها واتساقها، تخطى حدود الحرية والتعبير إلى التآمر للتدمير.
ففي هذا التوقيت الذي يعج بالاضطرابات والتوترات تتشكل البيئة الخصبة لاستقطاب كل من يتغذى على الفوضى، لا سيما تلك الأطراف التي تلعب على وتر المشاعر القومية والعربية لتأليب الرأي العام؛ لتحقيق مآرب شخصية في ظل أفق ضيق أدخل المنطقة في «نفق» لا نهاية قريبة له.
فليس بإشعال الاحتجاجات وتهديد الاستقرار تسترد الحقوق، ولا باستغلال «حماس» الشباب الداعم لغزة ستتوقف عجلة الموت الدائرة بلا هوادة في القطاع الذي يئن تحت وطأة العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي شارف على ختام شهره السادس مخلّفاً دماراً غير مسبوق وخسائر بشرية يصعب حصرها، لذلك ما شهده الأردن من أحداث لم يكن وليد الصدفة أو بشكل عشوائي، بل هو «سيناريو مخطط» لكنه «غير محكم»؛ لأنه ما أشبه اليوم بالبارحة، فتنظيم الخراب والدمار «الإخوان» الذي يتغذى على الاضطرابات ويغذيها يسعى حالياً وبشدة للعودة إلى مسرح الفوضى من كالوس «غزة»، مستغلاً كعادته العنف والمظاهرات الداعمة ليحول بوصلتها لصالحه، لكن هذه المرة كان للأردن نصيب من سمومه، على أمل أن ينجح فيما فشل فيه -وما زال- على مدار عقود.
فما شهدته الاحتجاجات في الأردن قبل عدة أيام أظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك من يدفع الشارع الأردني إلى التصعيد ضد الحكومة عبر التشكيك في المواقف الرسمية الثابتة والظاهرة للعيان في دعم غزة، في ظل ما تبذله عمان من جهود دبلوماسية في كافة المحافل الإقليمية والدولية لإيقاف العدوان الإسرائيلي جنباً إلى جنب مع الجهود الإنسانية والإغاثية التي يتقدمها الملك شخصياً عبر طلعات جوية كانت الأولى التي تحلق في سماء غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، تبعها بعد ذلك طلعات جوية إغاثية مشتركة مع الإمارات ومصر.
فقد دللت أعمال العنف التي واكبت احتجاجات الأردن، الأسبوع الماضي، وما شهدته من اعتداءات من قبل مندسين ومخربين ضد قوات الأمن، والإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة، بغرض «الهدم لا الدعم» متخفياً تحت شعار التضامن مع غزة المكلومة، غير أن سيناريو مشاهد «الخريف العربي» واستغلال تيار الإخوان للحشود الغاضبة ظهر مرة أخرى في أذهان العيان، ضارباً جرس إنذار لفوضى سبق أن واجهها الأردن بكل حزم وصلابة في أوقات «الخريف العربي».
تلك الأهداف الخبيثة تظهر بوضوح في الدعوات التي يرددها الإخوان وأبواقهم الإعلامية وقياداتهم ومن على شاكلتهم، وتصريحات رئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل وتحريضه الملايين في الأردن للنزول إلى الشارع، والآخر الذي يلبس عباءة الإفتاء صادق الغرياني الذي يعد أحد أبرز الوجوه الإخوانية على الساحة حالياً في ليبيا والمعروف دوماً بإثارته للجدل بسبب فتاويه المتشددة والتحريضية والداعية للعنف والقتل، والتي هي الأخرى استهدفت إثارة الرأي العام الداخلي في الدول العربية، وخصوصاً الأردن ومصر، للزحف نحو الحدود واجتيازها غير آبه بسيادة تلك الدول.
مفارقات ليست بغريبة أو مستحدثة على جماعة الإخوان وأزلامها الذين «يتواكلون على الغير» ويتناسون شعاراتهم «الزنانة» هم وتنظيماتهم الفرعية وحلفاؤهم ومن هم على شاكلتهم، ففي الوقت الذي يستبيحون فيه حدود الأردن، لم يحركوا ساكناً ولم ينبسوا ببنت شفة لمطالبة وكلائهم في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله اللبناني وزعيمه حسن نصر الله للتحرك بضعة كيلومترات للزحف نحو إسرائيل والقضاء عليها وتحرير الأقصى.
لكن هؤلاء نسوا أو تناسوا تاريخ الأردن الذي يشهد على دعمه المتواصل لفلسطين سياسياً ودبلوماسياً وإنسانياً، وحتى مادياً ومعنوياً، فمنذ السابع من أكتوبر لم يدخر الأردن جهداً في تقديم الدعم اللازم لغزة، وذلك للمساهمة في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، فالأردن، بصحبة الإمارات ومصر، يقف شاهداً على الأفعال، ليس فقط بالأقوال.
ولكي نفهم الحاضر لا بد من استحضار الماضي، فليس بغريب أو خفي عن الأعمى قبل البصير، الجهود التي قام بها الأردن في فتح ذراعيه للاجئين ممن احتموا به جراء تداعيات أجندة الإخوان الإرهابية في الدول المجاورة لا سيما بعد 2011، حيث استقبلت أراضيه عشرات الآلاف من اللاجئين من دول الجوار، ورغم ما سببه ذلك من ضغط كبير على موارده، فإنه لم يدخر جهداً في توفير الإيواء والرعاية الصحية والتعليم وكافة سبل الحياة لهم.
جاء ذلك في وقت شهد فيه الأردن تهديدات من جماعات متطرفة تسعى لتفكيك استقراره وزعزعة وحدته، إلا أنها اصطدمت بسد منيع من الوحدة الداخلية والتكاتف الشعبي في ظل قيادة رشيدة من الملك عبدالله الثاني الذي وقف بثبات في وجه هذه الشرذمة المتطرفة، ونجح في العبور بالبلاد وشعبها من هذا الخطر الذي نخر في جسد الدول المجاورة حتى أعياها وأصابها بالضعف، منها ما استطاع العلاج عبر الاستئصال، ومنها ما زال يتداوى حتى الآن.
ما تفعله حالياً جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان، من تأليب الرأي العام الداخلي في الدول العربية والتحريض ضد الأنظمة الحاكمة، ليس الغرض حماية غزة ودعمها بقدر ما هو محاولة لإنقاذ حركة حماس، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر الماضي، عندما شنت الحركة هجومها على إسرائيل، وتسبب في هذه التداعيات المدمرة التي وضعت المنطقة على المحك، وهو الأمر الذي أضحى حالياً في حكم المستحيل، فلم تعد غزة كما كانت، ولن تعود حماس كما في السابق، فما قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده، مثلما كانت المنطقة قبل 2011 وما بعده.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة