فرحة أهالي قطاع غزة بالهدنة التي دخلت حيز التنفيذ يوم الجمعة الماضي وتنتهي اليوم هي "فرحة مستحقة"، حيث بدأ معها الإفراج عن أعداد متتالية من الأسرى الفلسطينيين لدى سجون إسرائيل واستحقاقهم لتلك الفرحة لوجود سببين اثنين.
السبب الأول: لأن من حق أهل غزة أن يحظوا بفترة هدوء لالتقاط الأنفاس بعد ما يقرب من خمسين يوماً من القصف المتواصل ومن قتل المدنيين العزل. وبالتالي ليس من حق أحد أن يزايد عليهم في تحمل الضربات الإسرائيلية ولا من الصمود والبسالة التي أبدوها في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة في ظل حالة من العجز الدولي تحت مبرر مغلوط قائم على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
السبب الثاني: أن هذه الهدنة حق إنساني تأخر كثيراً بعد أن تعثرت محاولات سابقة لوقف القتال، ما أدى إلى تزايد أعداد الضحايا وتفاقم حجم الخسائر المادية والبشرية في كل أنحاء قطاع غزة وكذلك في الضفة الغربية، بل إن هذا الحق يمتد لأن يتم تمديد هذه الهدنة لتصل إلى إيقاف هذه الحرب المتوحشة وأن يدفع المجتمع الدولي بإنهاء مأساة قطاع غزة لأن احتمالات عودة الحرب واردة في ظل تشدد الطرفين (الإسرائيلي وحركة حماس) في مواقفهما السياسية دون وضع الاعتبار للحالة الإنسانية.
الغريب أن يتفاخر مقاتلو حركة "حماس" وغيرها من التنظيمات الفلسطينية المسلحة ومعهم العديد من الأيديولوجيين في عالمنا العربي بما تحقق بحساباتهم الفكرية المشوهة من مفاجآت وعمليات عسكرية نوعية في السابع من أكتوبر الماضي، لكنهم لم يسمحوا لتفكيرهم أن يجتهد في تقدير حجم الخسائر الإنسانية التي تسببوا فيها من مقتل 15 ألف إنسان فلسطيني غير المصابين والجرحى ولم يسعفهم تفكيرهم في رؤية تدمير البنية التحتية الكاملة لقطاع غزة ولا حتى التداعيات السياسية الحقيقية لمستقبل هذا القطاع لم يتضح بعد لأن عقل صاحب الأيديولوجية لا يفكر بهدوء في كافة الأبعاد والدلالات.
أقرب الأبعاد التي ينبغي التفكير فيها بهدوء، أن الهدنة ستنتهي اليوم الإثنين وما لم يتم التفكير بمنطق وعقلانية ووضع الخسائر الإنسانية في المقدمة فإن المشهد مفتوح لكل الاحتمالات بل قد لا تكون مبالغة إذا قلنا إن بعض التحديات المنتظرة ستظل قائمة حتى إذا تم تجديد الهدنة، بل ربما تتأكد تلك التحديات وتزداد بعض الأوضاع صعوبة إذا سارت الأمور في اتجاه هدنات أخرى أو تسويات ولو مؤقتة وما إلى ذلك من أشكال التهدئة بين إسرائيل و "حماس".
أخطر ما في الأزمة الحالية هو ظهور حركة "حماس" وتصاعد دورها في القضية الفلسطينية فهذا سيدفعها إلى عودتها مجدداً كلاعب رئيسي في القضية بمختلف مساراتها، وهذا يعني تغير موازين وحسابات كثيرة تتعلق ليس فقط بمستقبل القضية وطريقة إدارتها ومن ثم كيفية تسويتها، بل أيضاً بمجمل المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط وموازين القوى بين مكوناته.
فبعد سنوات من اعتراف العالم أجمع بمحورية "الدولة الوطنية" خاصة بعد فشل مشروع "الإخوان" بعد ما كان يُعرف بـ"الربيع العربي" ستسعى حركة "حماس" ورفيقاتها من الحركات المسلحة التي تحمل الفكر نفسه إلى فرض نفسها مرة أخرى على العالم. وهو تحد كبير وخطير خصوصاً في منطقة متوترة دائماً ولديها قابلية عالية لتعدد الفاعلين ولأنماط مختلفة من اللاعبين.
كل ذلك يعني أن الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة سيصير أكثر صعوبة وتعقيداً، خصوصاً بالنسبة للدول التي تدرك حقيقة تلك الحركات والتنظيمات من "الفاعلين غير الدول"، حيث أولئك الفاعلين للأسف يقدمون نموذجاً قابلاً للتقليد والمحاكاة بواسطة قوى داخلية تحمل فكراً متطرفاً في بعض دول المنطقة خاصة القريبة من الدائرة المباشرة للصراع، مثل مصر ولبنان وحتى الأردن، وقد تتسع الدائرة في وجود بعض المتعاطفين الذين ينجرون وراء أفكار تلك التنظيمات دون وعي وطني حقيقي من مخاطر على الاستقرار المجتمعي لأوطانهم.
ولتكتمل الصورة فإن الجانب الإسرائيلي الذي يتصف مزاجه السياسي بالراديكالي وبقصر النظر في إدارة هذا الصراع فإنه يساعد في صعود الحركات المتطرفة في المنطقة والتسبب في خسائر لا تعوض أو يمكن تصحيحها بسهولة بقدر ما أن مغامراته السياسية تخلق بيئة مناسبة للمتطرفين كسب المزيد من التأييد في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة